الجزائر: من "فوبيا المثقف" إلى الشعبوية القاتلة

ما كان للجزائر أن تنجو لولا تدخل المثقفين التنويريين الذين تجندوا للدفاع عن قيم الجمهورية في الوقت الذي كان النظام على وشك تسليم الجزائر للفاشية الدينية.
الاثنين 2019/02/25
النظام شجع على تكفير محمد أركون ومطاردته وتحقيره في عيون الجزائريين

كيف تعامل النظام السياسي الجزائري منذ الاستقلال مع النخب الثقافية التنويرية؟

كان النظام الجزائري ولا يزال يحذر من وجود المثقف في صفوفه، فمنذ تصفية مهندس الثورة ومثقفها الأول عبان رمضان العام 1957 بتطوان بالمغرب من قبل رفاقه في الثورة، لم يحد النظام الجزائري عن سلوكه المتمثل في عدائه وتجاهله واحتقاره لكل مثقف نقدي.

لقد ورث نظام الاستقلال سياسة الخوف والحذر من المثقف من سنوات الثورة حتى أصبح الأمر تقليدا معمولا به في سياسة البلد. ولم يستطع هذا النظام السياسي وعلى مدى ستين سنة من الاستقلال تقريبا أن يصنع مثقفيه، أي مثقفي السلطة، لأنه لا يؤمن أصلا بدور المثقف حتى ولو كان من خدامه.

فالنظام يعتقد أنه يستمد قوته وشرعيته من “الشعب”، عن طريق “تحالف” مباشر ما بينه وبين الشعب دون المرور بالنخب الثقافية والفنية التي تشتغل على القيم وهي إسمنت المجتمع.

وفي ذلك اعتمد النظام السياسي الجزائري على الشعبوية التي تركب ظهر “الشرعية الثورية” وتوظفها، حتى يبدو وكأن الرابط بين هذا النظام وبين “الشعب” هو رابط “الزواج” الشرعي.

ولأن الشعبوية هي روح الدكتاتورية، فقد عمل النظام على تجنب المثقفين لأنهم يمثلون الصوت الذي يزعج ويتفلسف ويتساءل. الفتنة نائمة فلا توقظوها!

ولأن النظام السياسي لا يؤمن بدور المعرفة الإيجابية فقد قلل من دور المدرسة فسلمها منذ فجر الاستقلال للإخوان المسلمين الذين حولوها إلى ثكنات أيديولوجية أنتجوا فيها وعلى مدى خمسين سنة جيوشا وميليشيات من المتطرفين الإسلاميين والانتحاريين والقتلة.

وهي الميليشيات التي هددت وجود الدولة ومؤسساتها في الفترة التي سميت بالعشرية السوداء (ما بين 1990-2000)، وما كان للجزائر أن تنجو لولا تدخل المثقفين التنويريين الذين تجندوا للدفاع عن قيم الجمهورية في الوقت الذي كان النظام على وشك تسليم الجزائر للفاشية الدينية.

وانطلاقا من عقدة الخوف من المثقف حارب النظام في الجزائر المستقلة شاعر الثورة الأول مفدي زكريا صاحب النشيد الوطني الرسمي فمات في المنفى بتونس العام 1977، واغتيل شاعر المقاومة جان سيناك العام 1973 في ظروف غامضة ودفن ملفه معه، ويجد رفاقه اليوم صعوبة في ترميم قبره وتجديد شاهدته، ومات المفكر الكبير محمد أركون بفرنسا ولطالما شجع نظام الرئيس الشاذلي بن جديد الإخوان المسلمين وعلى رأسهم يوسف القرضاوي والشيخ محمد الغزالي اللذان كانا يقيمان بالجزائر على تكفيره ومطاردته وتحقيره في عيون الجزائريين.

 مات محمد أركون العام 2010 دون أي اهتمام يذكر من قبل من السلطة ودفن بالمغرب، ومات محمد ديب بفرنسا العام 2003 ودفن بها في صمت وهو أكبر روائي مغاربي رشح لمرات عديدة لجائزة نوبل للآداب، ومات الشاعر الكبير والمترجم جمال الدين بن الشيخ العام 2005 في فرنسا وبها دفن وفي تجاهل أيضا، وكذا الأمر بالنسبة للمفكر الإسلامولوجي التنويري علي مراد الذي توفي العام 2017 ودفن بليون بفرنسا، ولا تختلف نهاية الأديب والجامعي رابح بلعمري الذي توفي ودفن بباريس العام 1995 ومر موت المفكر الجريء مالك شبل في صمت ودفن بصمت العام 2016، ومات الروائي الطاهر وطار 2010 ولا أحد فكر في تحويل بيته إلى متحف ولا في مصير مكتبته….

هي حال نظام مصاب بعقدة “فوبيا المثقف” منذ الثورة ولا يزال يحكم باسمها ويدغدغ الشارع باسم الشعبوية وتوزيع الريع.

14