الجزائر التائهة
إلى غاية يونيو الماضي، كانت كلمة «استعمار» في الجزائر تطلق حصراً على الوجود الفرنسي، في البلد، والذي دام 132 عاماً (1830-1962)، لكن بدءاً من الخامس من يوليو الماضي، صارت هذه الكلمة يقصد بها الاحتلال الفرنسي، وكذا الوجود الأموي ثم العبّاسي في البلد، رغم أن تاريخ الأمويين والعبّاسيين، ووصولهم إلى الجزائر، يُدرّس للأطفال، في المرحلتين المتوسطة والثّانوية، من منظور إيجابي، باعتباره «فتحاً»، ومرحلة ناصعة من تاريخ البلد، فكيف حصل هذا الانقلاب المفاجئ، في الموقف الرّسمي في الجزائر، في نعت الأمويين والعباسيين بالمستعمرين؟
بمناسبة عيد استقلال الجزائر الأخير (5 يونيو)، كتب الرّئيس عبدالعزيز بوتفليقة رسالة إلى الشّعب، نشرتها وكالة الأنباء الرّسمية، وجاء فيها «على شبيبتنا ألا تنسى ما تكبّده شعبنا من ويلات طوال 132 سنة (فترة الاحتلال الفرنسي)، تلك الويلات التي تمثّلت في المجازر ومحاولات إبادة أهلنا وتجريدهم من أراضيهم وتصميم على طمس ثقافتنا ومحو هويتنا وجعلنا في خبر كان.
أو ليس الأمر كذلك بالنسبة للأمويين والعباسيين. علينا أن نجعل أبناءنا على علم بممارسات الغطرسة الهمجية التي طالت أسلافهم كلما حاولوا كسر قيود الاستعمار، وقد بلغت حدّ نفي الآلاف منهم إلى ما وراء المحيطات».
هذه المرّة الأوّلى في تاريخ البلد، يضع فيها مسؤول الوجود الأموي ثم العباسي في بوتقة واحدة مع الوجود الفرنسي، ولسنا نعرف هل الأمر يتعلّق بمراجعة تاريخية، أم بخطأ سيتم تداركه قريباً؟ فالواقع الجزائري يتعامل مع الفرنسيين من جهة، والأمويين والعباسيين من جهة أخرى، بمكيالين مختلفين، ينظرون للجار الشّمالي من البحر الأبيض المتوسط كمستعمر حقيقي، ويتعاملون مع القادمين من «الشّرق» باعتبارهم حاملي رسالة دينية!
تاريخياً، تأخّر وصول الأمويين إلى ما يسمّى الجزائر حالياً حتى عام 701 ميلادية، أي تقريبا 40 سنة بعد تأسيس الخلافة، ولم تكن مهمتهم سهلة في مواجهة المقاومة المستميتة التي قادتها امرأة وهي الكاهنة أو ديهيا (664-701)، وسقطت في المعارك بين الطّرفين مئات الأرواح من الجنود وغير الجنود، قبل أن يواصل الأمويون طريقهم، من الجزائر إلى الأندلس، بقيادة قائد محلي أمازيغي هو طارق بن زياد، والشّيء الجديد الذي حمله الأمويون إلى الجزائر وشمال أفريقيا عموماً هو الإسلام، الذي يمثّل الآن واحدا من ثوابت الدّستور الجزائري، أفلا يتعارض هذا الأمر مع وصف الأمويين بالمستعمرين؟ وناب العباسيون عن الأمويين بداية من منتصف القرن الثّامن، لكنهم لم يستقروا طويلا قبل ظهور الخوارج، ودخول البلاد مرحلة أخرى، لتتوالى لاحقاً الحركات الاستعمارية، من أسبان ثم عثمانيين، بدءًا من القرن السّادس عشر. وهنا سؤال آخر: لماذا لم يصف الرّئيس بوتفليقة الوجود العثماني في البلد بالاستعمار؟
المرجعيات التّاريخية تصف بالتّفاصيل فترتي الوجود الأموي والعباسي، في الجزائر، أو المغرب الأوسط، ولا تغفل عمّا حصل وقتها من فظاعات، من قتل وحرق وسبي، لكن كتب التّاريخ الرّسمية وشبه الرّسمية، في البلد، ظلّت منذ الاستقلال (1962) تنعت تلك المرحلة ﺒ«الفتح» وتارة أخرى ﺒ«الفتح الإسلامي»، وإعادة تسميتها اليوم بالاستعمار تستلزم الاعتراف بفضل ونضال القبائل الأمازيغية التي واجهت الجيوش الإسلامية، وعلى رأسهم الملكة الكاهنة، التي على أهميّتها تظلّ شخصية تاريخية مهمّشة في الجزائر، ينظر إليها بعين الرّيبة، وما تزال بعض الجماعات الإسلامية، لحدّ السّاعة، تصفها بأقبح الأوصاف وتتحامل عليها!
هنا إذن، يظهر الخلل في الرّسالة الأخيرة للرّئيس عبدالعزيز بوتفليقة للشّعب، والتي أثارت نقاشاً خافتاً، لكنه قلق، في الأوساط الثّقافية، فهل نعتبر كلماته اجتهاداً تاريخياً، وإعادة جادّة لتصحيح المسميات التّاريخية، أم هي مجرد خرجة ذاتية، وأن الرّئيس يفكر في إعادة كتابة التّاريخ على هواه، كما أعاد كتابة الدستور، ثم صحّحه بما يتوافق مع طموحاته السّياسية؟