الجزائري مولود معمري كان مثقفا سعيدا وروائيا محبطا

الجزائر- يتساءل ثلاثة جامعيين مختصين في الأدب باللغة الفرنسية في المؤلف الجماعي “مولود معمري: مثقف سعيد وروائي محبط” عن مكانة المثقف في المجتمع الجزائري من خلال أعمال ومؤلفات صاحب “الربوة المنسية”.
وقد أشرف محمد يفصح وهو دكتور في الآداب وأستاذ بجامعة وهران على إعداد هذا المؤلف من 144 صفحة، والذي صدر مؤخرا عن دار النشر “فرانتز-فانون”.
وتقترح جمعة معزوزي الباحثة والأكاديمية في كندا في هذه الدراسة، قراءة في رواية “الأفيون والعصا” التي صدرت سنة 1965 وهو العمل الذي اعتبرته بمثابة “امتحان للتحرر”، حيث يتمحور حول القرية كفضاء زمني ومكاني (كرونوتوب) للرواية.
معمري "المتعدد" كان في غالب الأحيان “منغلقا على نفسه” وبعيدا عن الشمولية وعن الظهور الإعلامي
ومثلت رواية “الأفيون والعصا” الثورة التحريرية التي قادها الجزائريون ضد الاحتلال الفرنسي، وتمكن معمري من الدمج بين الجانب التاريخي والاجتماعي والسياسي والفني مستحضرا الكثير من الرموز، ما جعل روايته تتموقع ضمن السياقات المعرفية المتميزة، بحيث استطاعت أن تشكل في الخطابات الأدبية مرجعية لها حضورها وآلياتها.
تعاملت الرواية مع الثورة بشكل مختلف عن الخطابات المباشرة التي كانت موجودة حينها، وحاولت من خلال لعبة السرد الذي يظهر ويضمر كشف الصراع الحاد الذي عاشه الشعب الجزائري ضد الاحتلال لتحقيق استقلاله. وببراعة الروائي يصور هذا العمل أهمية المكان ويركز بشكل لافت على جمالياته، حيث يتجسد فيها وعي الكاتب العميق بالكتابة كفعل جمالي وتكويني لذات الإنسان، إضافة إلى أنه شكل ومعنى وذاكرة ووجود، الكتابة عند معمري كانت سؤالا إشكاليا مرتبطا بالوعي الاجتماعي والثقافي.
كما اهتمت معزوزي أيضا بالعالم الوظيفي المستعمل في كتابات معمري والشخصيات المشاركة لتشكل بذلك تعددا للأصوات.

الكتاب الجماعي يناقش تجربة مولود معمري، الذي كان في صف الشعب ضد الاحتلال وتعرض للكثير من النقد
وإن كانت الرواية الكلاسيكية أو الرواية الفنية ذات البناء التقليدي تعتبر رواية الصوت الواحد. لذا، سماها نقاد الرواية بالرواية المنولوجية. فإن التعدد سمة الرواية الحديثة، ولم تظهر الرواية البوليفونية المتعددة الأصوات إلا مع دويستفسكي، حسب المنظّر الروسي ميخائيل باختين، وتعتمد هذه الرواية على تعدد المواقف الفكرية، واختلاف الرؤى الأيديولوجية، وترتكز كذلك على كثرة الشخصيات والرواة والساردين والمتقبلين، وقد استفاد منها معمري الذي أرسى عمله الروائي على التعدد في الأصوات دون أن يغفل الشخصية المحورية.
وتبين معزوزي أن معمري أولى اهتماما خاصا للشخصية الأساسية في رواية “الأفيون والعصا”، التي تفلت من المثالية التي تحرك الحرب ويجسد من خلالها “انفرادا في التحرير” عبر خطابه المتعدد.
هذا وشكلت صورة مولود معمري محور إسهام من الأستاذة الجامعية مليكة عصام المختصة في لغات وآداب ومجتمعات العالم بفرنسا، وقد تطرقت إلى الانتقال من صفة “عالم” إلى صفة “بطل المطالبة بالهوية الأمازيغية” في روايات معمري.
ومن خلال تحليلها أشارت عصام إلى استرجاع حياة الكاتب وأعماله ونشر صورة جديدة لمعمري تجعل منه “معلما مشتركا يعزز المطالبة بالهوية”، ويرتكز هذا التحليل على استذكار معمري من طرف شعراء ومشاهير الأغنية وعدة جمعيات ثقافية لا ككاتب فحسب، بل كمناضل وشخصية وطنية انخرطت في المسار التحرري لشعبها وكتبت بالفرنسية نصوصا جزائرية خالدة تدفع باتجاه التحرر والاستقلال وتخليد المكان الجزائري بكل جمالياته وشخصياته وتفاصيله.
من جهتها شاركت في الكتاب الأكاديمية بجامعة مولود معمري مليكة فاطمة بوخلو وهي صاحبة كتاب “مولود معمري: ذاكرة وثقافة وتاموسني” الذي صدر في سنة 2017، في هذا المؤلف الجديد تقدم بوخلو قراءة في رواية “العبور” لمعمري والتي صدرت سنة 1982، والتي اعتبرتها تكملة “للربوة المنسية” التي نشرت قبل ثلاثين سنة.
أما محمد يفصح فقد اهتم باستقبال الصحافة آنذاك لرواية “الربوة المنسية” (1952)، معتبرا أن معمري “المتعدد” كان في غالب الأحيان “منغلقا على نفسه” وبعيدا عن الشمولية وعن الظهور الإعلامي، وقد تعرض الكاتب بعد صدور روايته منتصف القرن العشرين إلى انتقادات عديدة من الجانب الجزائري خاصة، وهو ربما ما أثر فيه بشكل واضح لكن التاريخ أنصفه بتتويج روايته بعد ذلك بسنة.
مولود معمري تمكن في روايته "الأفيون والعصا" من الدمج بين الجانب التاريخي والاجتماعي والسياسي والفني مستحضرا الكثير من الرموز
وقد عملت الجائزة التي منحتها لجان التحكيم الأربع لرواية “الربوة المنسية” في سنة 1953 على تفاقم الحذر من معمري حسب محمد يفصح. ويقترح الكتاب حوارا أنجز سنة 2017 مع المخرج أحمد راشدي حول فيلم “الأفيون والعصا” المقتبس من رواية معمري.
وترك الكاتب والأنثروبولوجي واللساني مولود معمري (1917- 1989) إرثا كبيرا مكرسا لإعادة تأهيل وترقية الثقافة واللغة الأمازيغية، وهو أيضا مؤلف عدة أعمال روائية أشهرها “الربوة المنسية” (1952) و”غفوة العادل” (1955) و”الأفيون والعصا” (1965) و”العبور” (1982)، بالإضافة إلى مجموعات قصصية وعمل حول الترجمة والنقد الأدبي. كما أجرى معمري العديد من الأبحاث، وأدار أيضا مركز البحوث الأنثروبولوجية وما قبل التاريخ والإثنوغرافيا.