الجريمة المنظمة معضلة الأمن الحدودي في الدول النامية

تتجلّى طبيعة التعاون الأمني غير المنتظم، والذي يعاني من شح الموارد في الدول النامية ومن بينها الدول العربية، حيث ترزح بعضها تحت وطأة خلافات سياسية وحكومات ضعيفة في مواجهة الأزمات، بشكل خاص في هشاشة المناطق الحدودية إزاء الجريمة العابرة للحدود والشبكات الإرهابية والهجرة غير الشرعية، ولكن أكثر ما يرهقها هو خروج بعض المناطق عن سيطرتها إما عمدا وإما تساهلا من أجهزة إنفاذ القانون.
تونس – تشكل المشاحنات التي تتكرّر حول الأمن الحدودي بما في ذلك الجهود غير الفاعلة لمكافحة الإرهاب والمخدرات والاتجار بالبشر، مؤشرا على أن المنافسة بين البلدان النامية لمواجهة تلك التحديات المزمنة تعرقل إمكانية التعاون الإقليمي وحتى الدولي.
ويقول مراقبون إن الجريمة المنظمة بعناصرها الجديدة باتت تمثل خطرا كبيرا يواجه الدول كافة، سواء كانت دولا متقدمة أو نامية، فرغم أنها تعتبر ظاهرة قديمة كانت محصورة في جماعات المافيا سواء كانت مافيا إيطالية أو أميركية أو روسية إلا أن أخطارها كانت قليلة نسبيا وتستهدف دولا محددة.
ولكن مع نهاية الحرب الباردة وما شهده العالم مـن تغيرات كثيرة اقتصادية وسياسية واجتماعية وانفتاح اقتصادي وحريـة للتجارة وتلاشي معظم حدود الدول وسهولة تنقل الأشخاص والبضائع بين الدول ليصبح العالم قرية واحدة، كل ذلك أدى إلى تطور الجريمة المنظمة وانتشارها لتصبح عابرة للحدود الوطنية وخطرا يهـدد معظم دول العالم.
ولذلك بدأت الدول في مناقشة هذه الظاهرة منذ سنوات، وقد توجت بالمصادقة على معاهدة مكافحة الجريمة المنظمة، وهذه الأيام تناقش الدورة العاشرة لمؤتمر الدول الأطراف في الاتفاقية الدولية لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية على مدى خمس أيام تختتم اليوم الجمعة سبعة مقترحات قرارات مهمة تقدمت بها عدة دول منها إيطاليا والولايات المتحدة وفرنسا وبلجيكا ومصر، التي تترأس أعمال هذا المؤتمر.
مقاربة هشة
أمام العنف الذي يغرق فيه العالم اليوم بسبب الجرائم المنظمة، يتوقع المسؤولون والباحثون أن تكون عصابات المخدرات ومجموعات المافيا والجماعات الإرهابية هي المسؤولة عن شن الحروب المستقبلية، حيث حذروا مرارا من أن الوقت قد حان لإعادة صياغة خطط جديدة تنقذ العالم من أهوال الحروب القادمة.
وقال السفير الممثل الدائم للمغرب لدى المنظمات الدولية بفيينا، عزالدين فرحان، خلال افتتاح المؤتمر إن “التحكم في مكافحة الجريمة المنظمة لن يتأتى في معزل عن الإدراك المستمر لأخطار الجريمة بجميع أشكالها وتجلياتها على الإنسانية، والقناعة العميقة بأهمية اتخاذ تدابير منسقة وموجهة في إطار تعاون متين ومستدام، يدعو إليه المغرب منذ سنوات”.
ومن المؤكد أن ظهور أشكال جديدة للجريمة، وسهولة السفر والمبادلات التجارية الدولية، والحصول الفوري للمعلومات، والتكنولوجيا المتطورة، والاستخدام المكثف للاتصالات المشفرة، تشكل كل هذه العوامل أرضية خصبة تنتعش معها الجريمة الحديثة العابرة للحدود.
وتبدو مخاوف المغرب مفهومة، فلقد أدّت طبيعة الحدود الخارجية القابلة للاختراق في المغرب العربي، وارتباط البلدان التاريخي بالطرق التجارية في الصحراء والساحل، إلى زيادة تعقيدات المسائل الأمنية عند الأطراف الهشّة في المنطقة.
ففي الجزائر، مثلا، تسبّب غياب الفاعلية في ضبط الحدود مع ليبيا وتونس، حيث سُجِّلت تحسينات لافتة في العمليات في الأعوام الماضية، على امتداد عقود، بتفشّي التهريب، وأفضى إلى ازدهار الاقتصاد الخارج عن القانون، الذي يساعد على نشر الاستقرار في هذه المناطق المضطربة.
كما شهد الفراغ النسبي في السلطة على طول حدود دول شمال أفريقيا، لاسيما في مالي وليبيا، ظهور الهجرة غير الشرعية وتجارة الأسلحة والمخدرات، ما أدى إلى تغذية الشبكات الإرهابية، وقد تدهور الوضع سريعا غداة الانتفاضة التونسية وانهيار الدولة الليبية في العام 2011.
وقد أوصى “إعلان الرباط” الصادر في نوفمبر 2013 مع اختتام أشغال المؤتمر الوزاري الإقليمي الثاني حول أمن الحدود ببلورة رؤية وإطار للتشاور السياسي ووضع آليات للتعاون العملياتي، بخصوص أمن حدود دول الساحل وشمال أفريقيا. ولكن حتى الآن لا تزال الأمور غير مضبوطة.
وشهدت الصراعات العسكرية في مناطق عديدة من العالم ولاسيما في الشرق الأوسط طفرة، لاسيما بعدما تضاعف عدد الحروب الأهلية عما كان عليه الأمر في عام 2001. وتزامنا مع اشتداد أوج النزاعات، يتضاعف عدد الجماعات المسلحة غير الحكومية المشاركة في إراقة دماء المدنيين.
ووفقا للجنة الدولية للصليب الأحمر، فإن ما يقرب من نصف حروب اليوم يضم ما بين ثلاث وتسع مجموعات معارضة. وأكثر من 20 في المئة فقط من الحروب تضم أكثر من عشر كتل متنافسة. وفي الحروب عادة بما في ذلك النزاعات الدائرة حاليا في ليبيا وسوريا والعراق، تتنافس الميليشيات المسلحة من أجل فرض السيطرة.
ولكن غالبية هذه الفصائل المتحاربة هي نفسها منقسمة داخليا إلى حد كبير، ومن المرجح أن يكون عدد كبير من المقاتلين اليوم منتسبين إلى عصابات المخدرات ومجموعات المافيا والعصابات الإجرامية والميليشيات والمنظمات الإرهابية، وليس إلى الجيوش أو فصائل المتمردين المنظمة.
وبسبب العنف المتوطن وتراجع سلطة أجهزة إنفاذ القانون عن المناطق الموبوءة بالجريمة، فإن القرى والمناطق النائية على الحدود وحتى بعض المدن تديرها الآن حكومات موازية مكونة من هياكل سياسية وإدارية تتعامل بقانون الجريمة، على كافة المستويات.
نمو مفزع

ترتبط الجريمة العابرة للحدود في الوقت الحالي بزيادة زخم الجماعات الإرهابية، فكلاهما مكملان لبعضهما وهدفهما واحد وهو الحصول على الأموال من أجل الاستمرار على قيد الحياة. وهذا الأمر يمكن تحقيقه عبر استغلال الثغرات، حيث تفتقر دول العالم النامي إلى سياسة لمعالجة المشكلات المشتركة للمجتمعات المحلية المفقرة، والمهملة سياسيا، والتي يسهل دفعها نحو التشدد في المناطق الحدودية المشتركة.
ولعل أهم عامل يوفر الضمانة لانتشار هذه التجارة وتصاعدها بشكل رهيب هو استعمال لغة السلاح وفرض منطق من يحمله، وفي هذا الصدد تبرز تجارة الأسلحة وانتشارها بشكل رهيب، حيث تشير تقديرات الأم المتحدة لسنة 2003 إلى أن مليون قطعة سلاح منتشرة في القارة الأفريقية خصوصا.
وتؤكد معظم التقارير الأمنية الدولية أن كافة الجرائم لها علاقة مباشرة بعمليات غسل الأموال، التي تتم من خلال التسلل إلى المؤسسات المشروعة وتمويه الأموال المكتسبة من أنشطة الجريمة المنظمة وذلك باستخدام أساليب متباينة، ولكنها أيضا خلفت ضحايا كثرا تتضح في أرقام العمليات الإرهابية أيضا.
وتشير إحصائيات رسمية صادرة عن عدة وكالات استخبارات غربية إلى أن الأعمال الإرهابية نمت بحوالي 31 في المئة منذ 2011، لتصل إلى 4100 هجوم خلال النصف الأول من العام الجاري، حيث قفزت حصيلة القتلى جراء تلك الأعمال الإرهابية بنحو 26 في المئة قياسا بالفترة نفسها من العام الماض.
وعلى سبيل المثال، لا تزال منطقة الساحل، مسرح تجدد العنف والأرضية الخصبة للجماعات الإرهابية، تعاني من الأعمال الإرهابية التي تضاعفت سبع مرات منذ منتصف 2017 في منطقة الساحل والصحراء، وهذه الأرقام تؤكد أن أفريقيا في حاجة أكثر من أي وقت مضى إلى عمل “فوري وحازم” لتحقيق الاستقرار في القارة، وتوطيد أمنها.
وتقول غادة والي، الرئيس التنفيذي لمنظمة الأمم المتحدة المعنية بمكافحة الفساد والمخدرات والجريمة المنظمة، إن معاهدة مكافحة الجريمة المنظمة لها أهمية كبرى في مواجهة المخاطر التي تعاظمت بسبب وباء كورونا ومنها الأدوية والأجهزة الطبية الفاسدة وتهريب البشر والاتجار بهم وتهريب الأسلحة.
وتأتي أهمية المعاهدة الموقعة قبل عشرين عاما وبروتوكولاتها المرافقة كونها الإطار القانوني الدولي الوحيد، الذي يساعد الدول الأعضاء على مواجهة الجريمة المنظمة العابرة للحدود، حيث انضمت إليها قرابة 190 بلدا، وهي تجمع في طياتها عدة اتفاقيات تشمل مواجهة الاتجار بالبشر وتهريب الأسلحة وغيرهما.
ولكن في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة، التي أقرت في نوفمبر 2000، بروتوكولا ملحقا خاصا بمكافحة تهريب المهاجرين برا وبحرا جوا، “يوجب عدم ملاحقة المهاجرين غير الشرعيين جنائيا”.
ويشير البروتوكول تحديدا إلى أنه “لا يجوز أن يصبح المهاجرون عرضة للملاحقة الجنائية” لأنهم ضحايا، ووسائل وأدوات استخدمتها الجماعات الإجرامية المنظمة، وهي المتهم الذي يحصل من المجني عليهم على أموال طائلة.