الجدية قناع الكذابين

الخميس 2015/12/10

يجدر بنا أن نتفادى الكلام عنها حتى نتفادى الكلام بها، أقصد الجدية. سوف لن نقول عنها أيّ شيء، وذلك لكي لا نقع في فخها، بل سنقلب الموضوع ونتحرك في الاتجاه المعاكس، سنتكلم عما يخالفها في الدلالة والإحالة. لكن، ما الذي يخالف الجدية في الأخير؟ هل هو اللعب؟ الدعابة؟ الفرجة؟ الضحك؟ أم ماذا؟ ثم ماذا عن الجري والسباحة والغناء والدردشة والنميمة وهلم جرا؟ ربما كل هذه الأشياء تخالف الجدية، ليس هذا وحسب؛ فإننا نعلم بأن القدرة على الإبداع في مجالات الفن والأدب وحتى العلم تستدعي التحرّر من رداء الجدية، طالما أنّ الإبداع كسر للقواعد بنحو لا يجرؤ عليه ثقلاء الظل. وهل تخفى عنا روح الدعابة التي لم تكن تفارق إنشتاين؟ بلا شك، الجديون لا يبدعون، فماذا يفعلون؟ لا شيء، فقط يتظاهرون بأنهم أشخاص مهمون.

هل ثمة أمور لا تتحمل لسعات السخرية؟ لنترك “المقدسات” والتي يُقصد بها في غالب الأحيان تحصين “المعبد” من السخرية، ما يعني أن السخرية تزعج “حرّاس المعبد”، ولنفكر في أمور أخرى خارج دائرة “المقدّس”: ماذا عن العمل؟ العمل بجدية مفرطة يثير الاشمئزاز ويبعث على الملل والنفور، ومعلوم أن المهن التي تراهن على الزّبناء تسمّى بمهن فن الابتسام، من المصارف ومراكز التسوق ووسائل المواصلات إلى الفنادق وصالونات الحلاقة والتجميل. ثم ماذا عن الأبوة أو الأمومة؟ هنا أيضا الجدية المفرطة قد تدمر الأسرة وتضيع حاجيات المداعبة والحنان.

ثم ماذا عن الصداقة؟ حسن الجوار؟ ركوب الدراجة؟ في كل الأحوال الجدية تبعث الكآبة والملل لأنها تجعلنا نفقد خاصيتنا الإنسانية، وتشل قدرتنا على التفكير، وتحرمنا من ملامسة جوهر الكينونة. لذلك ليس صدفة أن يقول أبيقور “يجب أن نتفلسف ونحن ضاحكون”.

السخرية سلاح العقل في مواجهة الخرافة والتخلف، لا شك في هذا. إنها السلاح الأكثر فعالية. هذا ما أدركه ومارسه العقلانيون الكبار، على رأسهم فولتير وديدرو وقبلهما الجاحظ، واستعملها سقراط في محاوراته ببراعة حين كان يدفع محاوره إلى أن يسخر بنفسه من قناعاته. السخرية سلاح ضد الجدية المفرطة التي هي أصل الجمود والتحجر والتعصب. السخرية هي أحد أرقى أشكال مقاومة الأحداث المؤلمة التي تلم بالإنسان، فيها شفاء للصدور، وفيها مآرب أخرى.

لقد احتضنت عوالم السخرية النقد الأكثر جذرية للدكتاتوريات، نتذكر فيلم “الدكتاتور العظيم” الذي عرضه شارلي شابلن بأميركا عام 1940 في أوج صعود هتلر؛ نتذكر الأشرطة الساخرة للمخرج الأميركي مايكل مور خلال فترة صعود بوش الابن وسيطرة المحافظين الجدد؛ نتذكر فكاهيات الفنان المصري باسم يوسف في أوج صعود الإخوان بمصر، إلخ.

والواقع، مع منتديات التواصل الاجتماعي اتسعت دائرة السخرية بنحو مذهل، فاقتحمت مجالات جديدة، وأزاحت الكثير من الطابوهات المزعومة، فطالت السخرية شيوخ الدين وحكام السياسة وأخبار السلف والخلف. وليس يخفى الدور الذي باتت تلعبه سكيتشات السخرية من شيوخ الفتنة والتكفير في استنهاض الوعي العمومي، لربما لأن الناس يفكرون بنحو أكثر جذرية وهم يضحكون.

24