الجامعات العراقية.. من حرم للمعرفة إلى ساحة للمعارك السياسية
يهرب السياسيون العراقيون من الإقرار بأن ما حصل في جامعة واسط من احتجاجات طلابية أثناء زيارة رئيس الوزراء مؤخرا، هو النتيجة المتوقعة لغضب الطلاب الذين يطالبون بإصلاح المنظومة التعليمية، وتحريرها من المحاصصة الحزبية، وبصرف منحهم المالية وتخفيض أجور الدراسة المسائية والأهلية.
ومن أهم محركات الاحتجاجات السياسية للطلبة وجود فراغ فكري وسياسي لديهم، والمسؤولية عن هذا الفراغ مشتركة بين الفاعلَين السياسي والأكاديمي، فالطرفان بلا رؤية واضحة. السياسي يستثمر في التناقضات الإثنية والاجتماعية عوض الاستثمار في الاندماج الاجتماعي وروح المواطنة والثروة البشرية، والأكاديمي يخفق في احتضان طاقات الطلبة وإدماجهم في العملية التعليمية، عبر العمل البحثي والأنشطة الفكرية والثقافية. ويمعن السياسي في انتهاك استقلالية الجامعات ويعجز الأكاديمي عن تعزيز مكانتها المستقلة عن السلطة.
ولا يعكس انخراط طلبة الجامعات في الاحتجاجات ضد الحكومة فشل النخب السياسية في احتواء الشباب واستيعاب تطلعاتهم فحسب؛ ولكنه يكشف أيضا إخفاق النخب الأكاديمية في جعل الجامعة حاضنة حقيقية لطاقات الطلبة وتساؤلاتهم.
الجامعة منصة لإشباع حاجة الطلبة إلى المشاركة المدنية عبر تدريبهم على الانخراط في حوار سياسي يقارب القضايا العامة بموضوعية وعقلانية وبمنطق علمي بعيدا عن الأدلجة، والفضاء الجامعي مجال للنقاش السياسي العلمي رفيع المستوى وليس للصراع السياسي والمناكفات الأيديولوجية.
أما المشاركة المجتمعية للجامعة فتتجلى في تشجيع الطلبة على أداء أدوار مدنية وفكرية وثقافية في خدمة المجتمع من خلال بث قيم المبادرة والعمل ضمن فرق والتطوع والمسؤولية الاجتماعية والمدنية.
وظيفة الجامعة هي إشغال الطالب بأنشطة علمية وبحثية لبناء قدراته المعرفية والمهنية، وإشغاله بأنشطة ثقافية وإبداعية واجتماعية لبناء شخصيته. وينزل الطالب إلى الشارع عندما لا يجد في الفضاء الجامعي ما يسد حاجاته الفكرية والثقافية وحيرته السياسية.
وليست وظيفة الجامعة تزويد الطالب بمؤهل علمي فقط ولكن وظيفتها الأعظم هي إعداد الفرد فكريا وقيميا وتأهيله بأدوات ناعمة عابرة للتخصصات، تمكّنه من خوض معترك الحياة بمهارات معرفية وعقلانية ومنظومة قيم تؤهله للمشاركة الفعالة في تحسين نوعية حياة المجتمع المحلي والعالمي.
المشاركة المجتمعية للجامعة تتجلى في تشجيع الطلبة على أداء أدوار مدنية وفكرية وثقافية في خدمة المجتمع من خلال بث قيم المبادرة والعمل ضمن فرق والتطوع والمسؤولية الاجتماعية والمدنية
هذه الأهداف لن تتحقق بتحويل الجامعات إلى سجون بالتعاون بين شمولية سياسية حاكمة وبيروقراطية جامعية متزمتة وسلطوية أبوية تمارسها القيادات الإدارية للجامعات بحجة منع تسييسها، أو بدعوى المحافظة على الانضباط.
وينادي الفاعلون السياسيون العراقيون بعدم تسييس الجامعات، كلام حق يراد به باطل، فهدفهم منع الجامعات وطلبتها وأساتذتها من المشاركة المدنية بمفهوميها السياسي والمجتمعي. إن حماية الطلبة من الانزلاق إلى التحزب والتعصب والعنف مرهون بإدامة زخم الحياة الجامعية وفاعليتها ونشاطها، فالفضاءات الجامعية اليوم لا ترضي طموح الطالب ولم تعد جاذبة ولا مقنعة له لا سيما أن الأوضاع السياسية والاقتصادية تهدد مستقبله بالبطالة بعد التخرج.
ويؤدي تدني مستوى التعليم اليوم إلى فراغ معرفي لدى الطلبة وشعور بالعجز عن تحقيق طموحاتهم العلمية والعملية، أما الركود الثقافي الذي تعانيه الجامعات فيؤدي إلى فراغ فكري يدفعهم إلى العنف بأشكاله.
وعلى النخب السياسية أن تدرك أن ثمة فرقا بين تحريم الصراع السياسي في الجامعات وبين حرمانها من المشاركة في الحراك الاجتماعي والثقافي والحوار الوطني العام. وبعد التطور الهائل في المفاهيم والمصطلحات لم يعد بالإمكان الحديث عن مفهوم مختزل للسياسة يقصرها على صراعات الأحزاب على السلطة علما أن حتى هذه الصراعات من واجب الجامعات مناقشتها شريطة أن تقاربها بمنظور معرفي “ابستمولوجي” من زاوية أكاديمية، تعتمد نظرية المعرفة والتحليل العلمي بعيداً عن فجاجة الخطاب السياسي الاستهلاكي والأدلجة السطحية.
وينبغي عدم الاستهانة بالاهتمامات السياسية للطلبة أو الانتقاص من شغفهم بالمشاركة السياسية وعدم اعتبار أنها تلهيهم عن التحصيل العلمي، فمهمة الجامعة أن تتفهم الطالب عوض إدانته.
ويبدو واضحا أن السياسة تشكّل هاجسا أساسيا للطلبة ما يفرض على الجامعات تكييف برامج التكوين التي تعتمدها لتوظيف هذه الاهتمامات لدى الطلبة بما يعود بالفائدة والمنفعة عليهم وعلى مجتمعهم عوض قمعهم.
وما ينبغي أن يوجّه إليه الرفض هو التسييس الذي يعني زج الحرم الجامعي في الصراع السياسي، وليس التسييس الإيجابي الذي يعني إدماج الجامعة، بطلبتها وهيئاتها التدريسية، في نقاش سياسي يكون دورها فيه رشيدا ومسؤولا ومحكوما بضوابط علمية ومؤسسية صارمة.
إن النخبة السياسية هي المسؤولة الأولى عن ظاهرة التسييس السلبي للجامعات، فرؤساء الجامعات في المحافظات مثلا يتم تعيينهم على أساس مراعاة العامل الطائفي والجهوي. وعلى الرغم من احتفاظ الحكومة المركزية بحق تعيينهم من خلال وزارة التعليم العالي فإنها لم تفكر في تعيين رئيس جامعة سني في مدن الجنوب أو رئيس جامعة شيعي في الموصل أو الأنبار لكسر الاستقطاب الطائفي، وتخليص سياسات التعليم العالي من الجهوية، وتحريم الفرز بين المكونات في الوسط الجامعي، وإعادة تعريف دور الجامعة في المجتمع.
كاتب عراقي