التونسيون جذوة الوجود الحضاري

في تونس لديّ أصدقاء كثر، فهي أول بلد عربي زرته في حياتي العام 1979 في رحلة جامعية نظمتها جامعة بغداد لعموم الولايات فيها، وظلت صور شارع الحبيب بورقيبة وتمدداته ماثلة في أذهاننا، حيث التقينا بأجيال من المثقفين من الأساتذة والطلبة هناك.
التونسيون أكثر انفتاحا علينا وتواصلا معنا نجد فيهم خلطة خاصة مِن المعرفة والثقافة المتجذرة في التراث العربي مع نزوع للعصرنة والحداثة، وفيهم همّ متجذر في ملاحقة تطورهم ورغبتهم في أن يكونوا القلب النابض بين المشرق العربي ومغربه.
بالرغم من صغر مساحة أرضهم وكونهم يقبعون بين دول كبرى بالقياس إليهم، لكنهم يحملون أعلى نسبة من المتعلمين – المثقفين، الذين يتطلعون إلى الريادة في الكثير من المضامير، تحّفهم هواجس التطور وتزدحم في رؤوسهم الأفكار ليكونوا في مستوى دورهم الحضاري الذي قرروه بأنفسهم بالرغم من قلة مواردهم وعوزهم إلى عوائد مصادر الطاقة الأساسية التي تتمتع بها دول من حولهم.
تجارب التعلم في تونس تكاد تكون رائدة، ونتاجهم المعرفي يشار إليه بالبنان حيث حصدوا مئات الجوائز في اهتمامات كبرى، وظلوا يبنون تجربة بلدهم تحت وابل حوار حضاري عميق، ورغبة جامحة ليكونوا دوما من يشغل المقاعد الأمامية في النتاج المعرفي والثقافي.
التجربة التونسية يشار إليها بالتميز في كل عصورها، لولا الصراع السياسي وانقلاب المجتمع من حال الحوار الهادئ الرصين، إلى نبرة الصراخ التي تذكيها حاجات اقتصادية ضاغطة، واستحواذ طبقات نفعية على ثروات البلاد وكان ذلك كاللعب بقنبلة مؤقتة مسمارها الصاعق هو العوز.
وبعيد زيارات متكررة أخيرة ومحاورة الناس كمراقب محب لهذا الشعب المكافح، في شوارعها، وأروقة سياسييها وجدت ثقافة مغايرة لسلوك الشعب التونسي الذي يُمسرح الأحداث ويسبغ عليها بعدا دلاليا، يتمثل في الانقسام بين مجتمعين، الأول غاضب ينتمي إلى فكر الثورة وإرهاصاتها ورغبة التغير الجامحة واجتثاث الظلم ورموزه، وآخر يسعى جاهدا للإبقاء على مشروع تونس المثقفة الطبقية التي تؤسس لدور ريادي في العمل الحضاري، وهي ممتحنة أيضا بمدى تفهم المجتمع لليبرالية والعمل السياسي الذي كرسه معلم تونس الكبير الحبيب بورقيبة.
لغة الحوار هي السبيل الوحيد الذي يجسّر الفجوات وسوء الفهم الذي يكتنف تجانس فهم الأجيال التي تثير الحراك الشعبي، وتؤجج أحياناً غضب الناس وفرط إصرارهم على الصراخ حين لا يجدون تفسيرا منطقيا لما يحدث من حولهم.
وأظن أن القيادات في تونس وضعت يدها على هذه الأزمة وأعادت تبسيط المسائل ومعرفة مخاطرها.