التوسع العشوائي يغيّر ملامح المدن الليبية الكبرى

مقاولون وتجار يعيقون جهود السلطات لاحتواء البناء العشوائي.
السبت 2021/11/20
بناء فوضوي يشوه جمال المدن الليبية

فاقمت الاضطرابات السياسية منذ الإطاحة بنظام معمر القذافي ظاهرة البناء العشوائي في المدن الليبية الكبرى التي كانت مراكز أساسية للحرب، وبعد نحو عشر سنوات، تحول البناء الفوضوي إلى أزمة حقيقية يستغلها مقاولون لأغراض ربحية سريعة على حساب مخططات الدولة للإعمار وهو ما يهدد سلامة الليبيين وحتى جمالية المدن الليبية.

بنغازي (ليبيا) – تحوّلت ظاهرة البناء العشوائي في ليبيا إلى أزمة حقيقية في ظل استغلال مقاولين وتجار الفوضى التي تلت سقوط معمر القذافي قبل عشر سنوات، لوضع يدهم على أراض بشكل غير قانوني أنشأوا عليها سكنا عشوائيا، ما تسبّب في تغيير ملامح معظم مدن البلاد وخاصة الكبرى منها.

وبعد بدء مسار سياسي قبل أشهر في محاولة لإعادة البلاد إلى سكة القانون والسلم، تسعى الدولة التي نهشتها الصراعات الأهلية والانقسام السياسي، لتلقف مشكلة البناء العشوائي خارج المخططات الحضرية المعتمدة، وإيجاد حلول لها.

أبوبكر الغاوي: الدولة غير قادرة على مجاراة العشوائيات التي انتشرت بسرعة
أبوبكر الغاوي: الدولة غير قادرة على مجاراة العشوائيات التي انتشرت بسرعة

وتعد مدينة بنغازي، ثاني أكبر مدن ليبيا، الشاهد الأكبر على حجم ظاهرة التوسع العمراني العشوائي، بعد أن شهدت عمليات عسكرية شرسة خلال الأعوام الماضية قضت على أجزاء كبيرة من أحيائها.

ويقول مدير مكتب المشروعات في بلدية بنغازي (شرق) أسامة الكزة إن مساحة مدينة بنغازي “كانت قبل العام 2009، 32 ألف هكتار، وتبلغ مساحتها الآن نتيجة للعشوائيات 64 ألفا”، لافتا إلى أن نصف بناء المدينة خارج المخطط العام الذي وضعته الدولة.

وعلى بعد ألف كيلومتر إلى الغرب، في العاصمة طرابلس، أقيمت أحياء جديدة كاملة من دون أي ترخيص بناء.

ويتحدث وزير الإسكان والتعمير في الحكومة الليبية أبوبكر الغاوي عن “عدم قدرة الدولة على مجاراة العشوائيات التي انتشرت بسرعة، كونها لم تعتمد مخططات حضرية جديدة”.

ويشير إلى سلسلة اجتماعات تعقد مع المختصين وعلى رأسهم مصلحة التخطيط العمراني، للإسراع في إنهاء مرحلة “الجيل الثالث للمخططات الحضرية” في مختلف أنحاء البلاد، إضافة إلى التعاقد مع مكاتب هندسية محلية ودولية تعمل على تهذيب المخططات العشوائية التي توسعت على مدى الأعوام العشرة الماضية.

واعتُمد الجيل الأول للمخطط العمراني في ليبيا في العام 1966، فيما اعتُمد الجيل الثاني في العام 1980، ولم تُنفّذ مرحلة الجيل الثالث التي اعتُمدت في العام 2009 نتيجة تسارع الأحداث ودخول البلد في ثورة أطاحت بحكم القذافي في العام 2011.

وفي غفلة من الدولة الهشة، تمّ جرف آلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية عند أطراف بنغازي وتقسيمها الى مخططات عشوائية بمساحة 500 متر مربع لكل قطعة لتبنى عليها مساكن وأحياء كاملة، رغم انعدام البنية التحتية للمخطط تماما.

وتمتاز المنطقة الساحلية الممتدة من الخمس غربا حتى مصراتة شرقا مرورا بمنطقة زليتن بسيادة نظام الزراعة الأسرية وبتنوع منتجاتها، إلا أن هذه الأراضي الزراعية شهدت طفرة عمرانية نتج عنها نسيج عمراني عشوائي، ومن المتوقع أن يتم القضاء على أغلب الأراضي الزراعية بالمنطقة، وفق بحث أكاديمي في هذا الملف صادر عن جامعة المرقب في مدينة الخمس.

ولم يقف المقاولون وتجار الفوضى عند حد إنشاء مجموعات سكنية غير قانونية بل “سيطروا على مزارع وغابات مملوكة للدولة، وانتهكوا شواطئ، ومناطق أثرية”، بحسب تصريحات لرئيس مرصد التعديات على أملاك الدولة فوزي باني، وورقة بحثية مدعومة بصور جوية “قبل وبعد الانتهاكات” صادرة مطلع العام الجاري.

الدولة فشلت في إعادة تخطيط المناطق في بنغازي بسبب الحرب التي تسببت في استقرار النازحين في العشوائيات

وحتى الآن، ما تزال الدولة عاجزة عن احتواء توسع البناء العشوائي، وفشلت في إعادة تخطيط المناطق المتضررة عمرانيا في بنغازي بسبب الحرب التي تسببت في نزوح عدد كبير من قاطنيها منذ العام 2014 واستقرارهم في مساكن عشوائية بعد دمار منازلهم.

ووقعت معارك ضارية في بنغازي بين 2014 و2017 بين قوات المشير خليفة حفتر، الرجل القوي في شرق البلاد، والجماعات الإسلامية المسلحة، ما تسبب في تدمير مناطق عديدة.

ويقول جلال القطراني، وهو موظف في الثامنة والأربعين بنى مسكنا جديدا في حي جديد من بنغازي التي شهدت انطلاق الانتفاضة الشعبية ضد معمر القذافي، “تركنا منازلنا التي كانت في وسط المدينة بسبب الحرب”، مضيفا “بعد انتهاء المعارك، كانت هذه المنازل مدمرة وغير صالحة للسكن”.

ويتابع “لم يكن في إمكاننا دفع الإيجار، فاضطررنا إلى بناء منزل صغير أنشأناه بشكل عشوائي، في غياب خطة عامة من الدولة أو مساعدة لإعادة بناء الأحياء المدمرة”.

ويقول مسؤول المشروعات في بنغازي إن “هناك أكثر من 50 ألف وحدة سكنية خارج المخطط العام في المدينة لا يتوافر فيها الحدّ الأدنى من المعايير التخطيطية للتجمعات من حيث الطرق الرئيسية والفرعية وممرات المشاة والحدائق ورياض الأطفال والمدارس والمراكز الصحية والتجارية والإدارية”.

ويرى أن الأمر يشكل “خطرا على الاقتصاد الوطني لعدم جباية عوائد استهلاك الكهرباء والمياه، وغيرها من الخدمات العامة”.

ويحاول جهاز الحرس البلدي المعني بتطبيق “الأمن الاقتصادي” جاهدا الحد من البناء العشوائي. ويمكن خلال التجول في المخططات العشوائية رؤية لافتات كتب عليها بالطلاء الأحمر على جدران المباني “إيقاف البناء ومراجعة الجهاز”.

ويقول وكيل وزارة الإسكان والتعمير للشؤون الفنية خالد العبدلي إن “المخططات العشوائية تجاوزت الجيل الثالث من المخطط الحضري لبنغازي”، مؤكدا سعي الدولة لوضع خطط “قابلة للتنفيذ لتدارك الوضع القائم ومعالجته”.

ويقول رئيس مصلحة التخطيط العمراني عبدالحكيم عامر إن “الأمر يتطلب تخطي كافة أنواع البيروقراطية الإدارية بشكل عاجل وانتهاج منهج الحل السريع واستخدام أحدث التقنيات وطلب العون والمعرفة” من خبراء متخصصين.

أسامة الكزة: نصف بناء بنغازي عشوائي وخارج المخطط العام للدولة
أسامة الكزة: نصف بناء بنغازي عشوائي وخارج المخطط العام للدولة

ويوضح أن الأمر يهدف إلى إطلاق مرحلة تخطيطية جديدة أساسها تحديث المخططات الحضرية المعتمدة خلال الأجيال السابقة، والاستفادة من المعلومات وما أنجز من “الجيل الثالث”.

وفي طرابلس أصبحت حاجة السكان ماسة في الحصول على مساكن. فقد تسببت المعارك في محيط العاصمة في 2019 و2020 بدمار كبير وحركة نزوح واسعة.

والعشوائيات في طرابلس ليست منازل خشب وصفيح كباقي دول العالم الثالث، فأغلبها بيوت واسعة وفلل وقصور أيضا، فحتى الأغنياء لا يجدون براحا للبناء داخل المخططات، بل حتى مؤسسات الدولة يفاجأ المواطنون أحيانا بافتتاح مقرات جديدة لها داخل طرق حيوية مكتظة، لتزيدها اكتظاظا، دون توفير أبسط الخدمات، كأماكن ركن السيارات.

ومنذ بضعة أسابيع، بدأت السلطات حملة كبيرة ضد البناء غير المرخص، لاسيما على طول الكورنيش حيث توجد اليوم العشرات من المقاهي والمطاعم والمساكن.

وتم جرف العشرات من المحال التجارية والمساكن غير المرخصة، لكن أي حل بديل لم يقدّم لشاغليها الذين اضطروا لمغادرتها من دون إنذار مسبق.

ويتفق أغلب الليبيين على خطورة العشوائيات على البيئة والصحة العامة والاقتصاد والبنية التحتية والمظهر الحضاري للمدن. وفيما يحذر مسؤولون من عواقب امتدادها خلال السنين الأخيرة للمناطق المنخفضة ومسارات الأودية حيث تواجه السيول منازل المواطنين، وتخلّف لها أضرارا جسيمة، خلال موسم الأمطار، لا تملك العائلات الليبية التي دمرت منازلها سوى البناء الفوضوي في ظلّ الفوضى السياسية التي عرقلت إصلاح ما أفسدته الحرب في البلاد.

Thumbnail
7