التهدئة ومقاربات أطراف الصراع

جاء الرد المنتظر من حركة حماس على المحادثات السياسية التي جرت في العاصمة الفرنسية باريس للوصول إلى هدنة طويلة تمت صياغتها على مراحل ستسمح في النهاية بالوصول إلى اتفاق على وقْف إطلاق النار في قطاع غزة.
حركة حماس سلمت ردها لكل من قطر ومصر أثناء زيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى قطر وقبيْل سفره إلى إسرائيل، حيث أعلن رئيس الوزراء القطري أن رد حماس إيجابي في إطاره العام دون الخوض في تفاصيله لحساسية الموضوع.
ولكن في اليوم التالي تم تسريب الرد إلى وسائل الإعلام، في حين لم تعلق جمهورية مصر على الموضوع، ومن ناحية أخرى جاء رد رئيس الوزراء الإسرائيلي سريعاً، وهذا يجعلنا ننظر إلى رد حركة حماس ورد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لمحاولة فهم ما ستؤول إليه الأمور في قادم الأيام.
أولا فيما يتعلق بحماس: في قراءة متأنية لما طرحته حركة حماس، أورد الملاحظات التالية: بداية جاء طرح حماس من جزأين: الجزء الأول يتعلق بمراحل ثلاث مدة كل منها 45 يوماً، وهو ما يشكل إطارا عاما، والجزء الثاني ملحق لما سمته بـ“اتفاقية الإطار” والذي يضع تفاصيل المرحلة الأساسية وهي المرحلة الأولى. وقد عنونت حماس ردها بأنه رد أولي على إطار عام لاتفاقية شاملة بين الأطراف (الاحتلال الإسرائيلي وحماس والفصائل الفلسطينية) وبالتالي أول ما يرد إلى الذهن أن حماس تريد أن تظهر بأنها تتفاوض باسم الفصائل الفلسطينية كلها وليس باسم حماس فقط.
هل هذا نهاية مطاف العلاقة بين أطراف الصراع في هذه المرحلة أم مازالت هناك محاولات حثيثة من أطراف أخرى مختلفة لتقريب وجهات النظر والخروج باتفاق في المستقبل القريب؟
بالنسبة إلى أسباب الاتفاق (كما جاء في رد حماس) نرى في هذه النقطة أن حماس أوردت ستة أسباب لما طرحته في معرض ردها وهي الوصول إلى الهدوء التام والمستدام، وتبادل الأسرى بين الطرفين، وإنهاء الحصار على غزة، وإعادة الإعمار، وعودة السكان والنازحين إلى بيوتهم، وتوفير متطلّبات الإيواء والإغاثة لكلّ السكان في جميع مناطق قطاع غزة.
وبالتالي هذا يعني عودة الأوضاع إلى ما كانت عليه بما يضمن بقاء حماس كطرف أساسي يحكم غزة، وكأن شيئا لم يكن، فلم يتضمن الرد أي إشارة إلى أي أفق سياسي مستقبلي يتعلق بحل القضية الفلسطينية، وإنما حصرت حماس الأمر كله في قطاع غزة، وموضوع وقف اقتحامات وعدوان المستوطنين الإسرائيليين على المسجد الأقصى، وعودة الأوضاع في المسجد الأقصى إلى ما كانت عليه قبل عام 2002، بالإضافة إلى تحسين أوضاع الأسرى.
وعليه لا دور للسلطة الوطنية الفلسطينية في مسألة إعادة الإعمار، وإنما أوكلت هذا الأمر لأطراف أخرى حسب ما جاء في ملحق “اتفاقية الإطار”!
ثانياً، الأطراف الضامنة: الأطراف الضامنة لهذا الاتفاق حسب ما ورد في ملحق “اتفاقية الإطار” هي مصر وقطر وتركيا وروسيا والأمم المتحدة، وكل هؤلاء مع كامل احترامي وتقديري لمواقفهم وجهودهم الحثيثة للوصول إلى أي اتفاق على هدنة أو وقف لإطلاق النار لتجنيب الشعب الفلسطيني المزيد من القتل والدمار، إلا أنهم لا يملكون أيّ قدرة على منع إسرائيل من القيام بأي شيء مخالف للاتفاق أو إلزامها به تحت أي مسمى كان، وبالتالي هم ضامنون شكليون لأغراض مختلفة منها كما نقرأ التمويل وإعادة الإعمار وإدارة دخول المساعدات.. إلخ، وأيضا تنفيذ الشق المتعلق بإدارة المساعدات الإنسانية داخل القطاع ولا أرغب في الخوض في مشهد أكثر تعقيداً لتحديد دور كل طرف، وسبب وجودهم كضامنين لهذا الاتفاق.
ثالثاً، المراحل الثلاث: حسب ما ورد في رد حماس فإن المرحلة الأولى (45 يوما)، وهي المرحلة الأساسية، تشمل الإفراج عن جميع المحتجزين الإسرائيليين من النساء والأطفال (دون سنّ الـ19، غير المجنّدين) والمسنّين والمرضى، وتشمل أيضا إعادة بناء المستشفيات ومخيمات اللجوء بغزة، وخروج القوات البرية الإسرائيلية من المناطق السكنية، ووقفا مؤقتا للعمليات العسكرية وكذلك إجراء محادثات غير مباشرة مع إسرائيل لإنهاء العمليات العسكرية واستعادة الهدوء التام، وتكثيف دخول المساعدات الإنسانية بما لا يقل عن 500 شاحنة يومية. كما تشمل المرحلة الأولى فتح جميع المعابر وضمان حرية حركة الأفراد والبضائع دون معيقات، ورفع القيود على حركة المسافرين وخروج الجرحى والمصابين دون قيود، كذلك وقف اقتحامات المستوطنين للمسجد الأقصى، وتحسين أوضاع الأسرى في سجون الاحتلال ورفع الإجراءات والعقوبات التي تمّ اتخاذها بعد السابع من أكتوبر الماضي.
فيما تهدف المرحلة الثانية (45 يوما) إلى الإفراج عن جميع المحتجزين الرجال (المدنيّين والمجنّدين)، مقابل أعداد محدّدة من الأسرى الفلسطينيين، وخروج القوات الإسرائيلية خارج حدود مناطق قطاع غزة كافّة، وبدء أعمال إعادة الإعمار الشامل للبيوت والمنشآت والبنى التحتية التي دُمّرت في كل مناطق قطاع غزة، وفق آليات محدّدة تضمن تنفيذ ذلك وإنهاء الحصار على قطاع غزة كاملاً، وذلك مبني على ما سيتم التفاوض عليه في المرحلة الأولى.
أما المرحلة الثالثة (45 يوماً) فتهدف إلى تبادل جثامين ورفات الموتى لدى الجانبين بعد الوصول والتعرّف إليهم، واستمرار الإجراءات الإنسانية للمرحلتين الأولى والثانية، وذلك وفقاً لما سيتمّ التوافق عليه في المرحلتين الأولى والثانية.
ومما سبق يتبين أن كل التركيز سيكون منصبّا على المرحلة الأولى التي ستضمن المرحلتين اللاحقتين، أي أنه دون إتمام المرحلة الأولى لن تكون هناك مراحل لاحقة! والمؤشرات هنا خطيرة للغاية في استفراد حماس بتقرير ما سيحدث في القطاع دون توافق فلسطيني، خصوصاً مع السلطة الشرعية وصاحبة القرار في أي اتفاق يمس الشعب الفلسطيني وهي منظمة التحرير الفلسطينية، والأخطر من وجهة نظري في هذا الرد كله هو فصل موضوع غزة عن باقي الأرض الفلسطينية وفصله عن الحل السياسي الذي يسعى الجميع لتحقيقه وعدم ربط هذا مع بعضه البعض.
دخول مسؤولين أتراك على خطوط قنوات الاتصال، بالإضافة إلى مسؤولين سعوديين، وسط توقّعات بدور أكبر لأنقرة والرياض في المرحلة المقبلة
رابعا فيما يتعلق بإسرائيل: أعتقد أن رد حماس جاء لنتنياهو كمن يريد هذا الرد للاستمرار في الحرب وتنفيذ الشق الأخير باحتلال الشريط الحدودي المسمى فيلادلفيا واقتحام مدينة رفح بعد حصارها، إرضاء لأقطاب اليمين المتطرف الداعم لحكومته، وبذلك يكون قد أعاد احتلال القطاع بالكامل، وقطع كل تواصل مع مصر لتصبح سيطرته في قطاع غزة على كل شيء تقريبا. ففي معرض رده تطرق رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى أن قوات الاحتلال قد قضت على معظم قوات حركة حماس، وأنه لم تتبق سوى أربع كتائب، وهذا يعني أنه يسوق لشعبه وخصومه السياسيين أنه قد أنجز جزءا كبيرا من المهمة ولم يتبق إلا القليل، وهو ما يعني أنه يرغب في استمرار القتال لتحقيق النصر المطلق حسب وصفه!
هذا بالإضافة إلى التصريح الإسرائيلي مؤخرا بأن 31 رهينة قد قتلوا خلال الأحداث، وبالتالي أوصل رسالة إلى ذوي الرهائن يفيد مضمونها بألا ينتظروا صفقة للإفراج عنهم بل عليهم الانتظار لاستعادة الجثامين عقب انتهاء المعارك، وهذا سيحرره من الضغط الشعبي ولو قليلا في هذه المرحلة.
فضلا عن ذلك دخل في مواجهة مع الولايات المتحدة من خلال منع وزير الخارجية الأميركي من لقاء رئيس هيئة الأركان، وتم إعلان ذلك. وهذا لا يحدث في العالم كما لو أن العلاقات الدبلوماسية والسياسة بين الدولتين فاترة، والتي عبر عنها بلغة الجسد أثناء استقباله لوزير الخارجية الأميركي وأثناء المؤتمر الصحفي، في حين أنه في بداية الحرب حضر وزير الخارجية عدة جلسات لمجلس الحرب، وعليه فقد استطاع نتنياهو حتى الآن استغلال الولايات المتحدة على أفضل وجه لخدمة مصالحه.
ومن ناحية أخرى لم يرفض نتنياهو المقترح صراحة فهو لم يعلن وقف المحادثات أو تخلي إسرائيل عنها، ولم يعلن صراحة أنه سيعارض إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين ولكن أبقى الباب مواربا لما ستحمله الأيام القادمة، وهو بالفعل ما قام به سريعا، حيث استقبلت مصر وفدا إسرائيلياً في إطار جولة جديدة من المفاوضات بشأن اتفاق وقف إطلاق النار والإفراج عن الأسرى، وبحسب التقارير المختلفة فإن “المفاوضات الجديدة ستستغرق 10 أيام على الأقل قبل بدء سريان المرحلة الأولى من الاتفاق”.
وبالتزامن مع ذلك أيضا يصل وفد قطري إلى مصر للشروع في مباحثات من أجل تقريب وجهات النظر بين ما طلبته حماس في ردّها على “الاتفاق الإطاري” وما يريده الإسرائيليون، كذلك تشير التقارير إلى دخول مسؤولين أتراك على خطوط قنوات الاتصال، بالإضافة إلى مسؤولين سعوديين، وسط توقّعات بدور أكبر لأنقرة والرياض في المرحلة المقبلة.
ولكن يبقى السؤالان: هل هذا نهاية المطاف للعلاقة بين أطراف الصراع في هذه المرحلة، أم مازالت هناك محاولات حثيثة من أطراف مختلفة لتقريب وجهات النظر والخروج باتفاق في المستقبل القريب؟ هل رد نتنياهو الأولي جاء بالدعم والتوافق مع الولايات المتحدة لتمديد الحرب لفترة قصيرة أخرى تمكن إسرائيل من الوصول إلى موقع تفاوضي أفضل من جهة وزيادة الضغط على حماس من جهة أخرى، أم أن العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة دخلت في مرحلة جديدة من المواجهة؟ هذان السؤالان برسم الإجابة عنهما في الساعات والأيام القادمة.