التنافر المعرفي في قلب المجتمع الإسرائيلي

الإسرائيليون يعيشون دور الضحية والجلاد في آن واحد.
الجمعة 2022/05/20
يخافون المحرقة ويرتكبون انتهاكات فظيعة

تعدّ إسرائيل نموذجا ناجحا للدول التي تتمسك بالمعتقدات والأساطير وتروّج لنفسها باعتبارها ضحية كي تبرر تجاوزاتها، وهو ما يجعل المجتمع الإسرائيلي يعيش في تنافر معرفي بالكامل؛ فبينما يعتقد الإسرائيليون أنهم يواجهون معاداة السامية بصورة غير مسبوقة تتقرب حكومتهم من معادي السامية، وبينما يعتقدون أنهم سيواجهون الدمار في محرقة جديدة يمتلكون واحدا من أقوى الجيوش على الإطلاق سيمنع حدوث ذلك.

تبنى كل دولة من دول العالم على أسطورة من الأساطير، وتعمل القصص أو التواريخ المشتركة على بناء المجتمعات وربط أجزائها ببعضها البعض. وأسطورة تأسيس إسرائيل فريدة من نوعها بين الدول المعاصرة؛ فهي تقدم شكلاً من التنافر المعرفي الذي يمكّن المجتمع من الاستمرار في واحد من أكثر الاحتلالات العسكرية المطولة في التاريخ الحديث مع الظهور بمظهر الضحية. ويمنحنا الاحتفال الأخير بيوم ذكرى المحرقة إطلالة واضحة المعالم على هذا التنافر المعرفي والأساطير التأسيسية للمجتمع الإسرائيلي.

ويعتقد ما يقرب من نصف الإسرائيليين أن محرقة أخرى قادمة، وذلك وفقًا لاستطلاع الرأي الأخير الذي أجرته صحيفة "جيروزاليم بوست"، حيث وجد الاستطلاع أن الشباب الإسرائيليين واليهود المتمسكين بأهداب الدين، كانوا قلقين بشكل خاص من وقوع محرقة أخرى بينما كانت الأجيال الأكبر سنا أقل قلقًا منهم، وأشار الكثيرون إلى أن تصريحات إيران المستمرة حول تدمير إسرائيل كانت دافعًا إلى الشعور بالقلق بشأن التعرض لمحرقة أخرى.

ويطلعنا المسح على الكثير من الأمور الأخرى؛ على سبيل المثال يبين أن مزاعم إيران بشأن إسرائيل رغم كونها بغيضة إلا أنها تركز على إسرائيل ولا تقول شيئًا عن الشعب اليهودي في جميع أنحاء العالم.

وبينما تُعرِّف إسرائيل نفسها بأنها دولة يهودية، فإن الملايين من اليهود الذين يعيشون في مختلف أنحاء العالم ليس لديهم أي صلة بإسرائيل ولا هم مواطنون إسرائيليون. والانتقادات والدعوات إلى العنف ضد إسرائيل، مهما كانت قاسية ومتطرفة، لا تشابه هدف هتلر المعلن لإبادة الشعب اليهودي أينما كان، ويبدو أن الإسرائيليين غير قادرين أو غير راغبين في فصل أنفسهم ودولتهم القومية عن بقية يهود العالم.

الإسرائيليون يعتقدون أنهم الضحية وهم على حافة الدمار بينما لديهم جيش مثير للإعجاب وقوي ويقومون باحتلال شعب آخر

وربما يكون الأمر الأكثر وضوحاً حول مخاوف الإسرائيليين بشأن محرقة أخرى هو العلاقات السياسية بين إسرائيل والسياسيين المعادين للسامية في مختلف أنحاء العالم، فقد أقامت إسرائيل علاقات وثيقة مع سياسيين معادين للسامية علنًا في جميع مناطق العالم، من فيكتور أوربان المجري إلى العناصر المتحالفة مع دونالد ترامب.

وفي ظل إدارة ترامب زادت معاداة السامية في جميع أنحاء الولايات المتحدة والعالم إلى درجة كبيرة، حتى أن دونالد ترامب الذي يعتقد الإسرائيليون أنه صديق عظيم لبلدهم وصف المتظاهرين الذين حضروا تجمعًا للنازيين الجدد في "شارلوتسفيل" ضمن ولاية فيرجينيا بأنهم “أناس طيبون للغاية".

وإذا كان الإسرائيليون قلقون للغاية بشأن محرقة أخرى فلماذا لا يعبرون عن المزيد من الغضب واتخاذ إجراءات أكثر قسوة في دعم المجتمعات اليهودية من بودابست إلى بيتسبرغ؟ وكحد أدنى، يمكن للحكومة الإسرائيلية إنهاء علاقاتها الوطيدة مع السياسيين المعادين للسامية في جميع أنحاء العالم أو يجب أن تكون هناك بعض الأدلة على الضغط الشعبي لعكس مسار تلك التحالفات.

ويعكس هذا الوضع الغريب التنافر المعرفي في قلب المجتمع الإسرائيلي، وأعني بالتنافر المعرفي وجود فهمين متضاربين لمكانة إسرائيل في العالم وسلوكها تجاه الآخرين، حيث يعتقد الإسرائيليون أنهم الضحية وهم على حافة الدمار بينما لديهم جيش مثير للإعجاب وقوي ويقومون باحتلال شعب آخر.

المتمسكون بأهداب الدين قلقون من وقوع محرقة أخرى
المتمسكون بأهداب الدين قلقون من وقوع محرقة أخرى 

لقد فهم الإسرائيليون دائمًا أن بلادهم في حالة خطيرة وعلى وشك الدمار، وينبع هذا الخوف من قتل يهود أوروبا في الهولوكوست، والحروب التأسيسية المحفوفة بالمخاطر في البلاد، والفترة الطويلة لمعاداة السامية في التاريخ اليهودي، وتلك من الأسباب التي تجعل إسرائيل تحافظ على التجنيد الإجباري لشبابها وشاباتها، فضلاً عن مركزية الجيش كمؤسسة في المجتمع الإسرائيلي، فكيف يمكن للجيش أن يهيمن على المجتمع دون عنصر الخوف؟

لقد ولدت إسرائيل بالفعل في عالم خطير، لكنها نمت وتطورت بفضل حالة انعدام الآمن، وتفتخر بواحد من أقوى الجيوش في تاريخ البشرية. وتمتلك إسرائيل ترسانة من الأسلحة النووية دون أن تثبت أو تنفي وجودها، حتى أنها تمضي قدماً في اتفاقيات التطبيع مع العديد من الدول العربية في الشرق الأوسط دون الحاجة إلى تقديم أي تنازلات للفلسطينيين، وهذا لا يعني أن إسرائيل ليست لديها مخاوف جيوسياسية كبيرة، لكن الفكرة القائلة بأن هناك محرقة ثانية فورية لا تتوافق مع الحقائق على الأرض.

إسرائيل تُعرّف نفسها بأنها دولة يهودية في حين أن الملايين من اليهود في مختلف أنحاء العالم لا صلة لهم بإسرائيل

وذلك هو الجانب الذي يظهر فيه التنافر المعرفي بالكامل، حيث يعتقد الإسرائيليون أنهم يواجهون معاداة السامية بصورة غير مسبوقة بينما تتقرب حكومتهم من معادي السامية، ويعتقدون أنهم يواجهون الدمار على الرغم من امتلاكهم واحدا من أقوى الجيوش على الإطلاق.

وهذا يعكس صورة المجتمع الذي أقنع نفسه بأنه الضحية إلى درجة أنه لا يستطيع أن يدرك الحالات التي يكون فيها هو المعتدي. وقد أشرت إلى استمرار الاحتلال العسكري للأراضي الفلسطينية، وهو المظهر النهائي لعقدة الخوف التي تميز المجتمع الإسرائيلي من خلال تمكين شبابه من الحفاظ على التحكّم في الفلسطينيين والهيمنة عليهم.

وهذه الفكرة موجودة، ولكنها مختلفة قليلاً في حملات العلاقات العامة الإسرائيلية التي تدار في جميع أنحاء العالم، فلا شك في أن الشعب اليهودي عانى واحدة من أعظم المآسي في التاريخ خلال مرحلة الهولوكوست أو المحرقة.

وإذا كانت الدولة اليهودية "التي عرفت نفسها بذلك المصطلح" على وشك الوقوع في براثن محرقة أخرى، فلن يتمكن المجتمع الدولي من التركيز على احتلال فلسطين، لقد استمر استخدام وإساءة استخدام الهولوكوست بهذه الطريقة منذ تأسيس البلاد.

إن الاحتفاظ بمعتقدات وروايات متنافرة ليس بالأمر غير المعتاد في الأساطير التأسيسية للدول القومية الحديثة، ورغم ذلك تتفوق النسخة الإسرائيلية من هذه الدول في تبرير عقلية الضحية لتسويغ الأعمال العدوانية ضد الفلسطينيين، وتتذكر إسرائيل كل عام أولئك الذين لقوا حتفهم في المحرقة بدلاً من التركيز على الحد من معاناة الآخرين، وتستخدم الدولة هذا الحدث دائما في تحفيز عقلية الضحية لتبرير عدوان جيشها على الفلسطينيين وموقفها من معاداة السامية في جميع  أنحاء العالم.

7