التمويل الأجنبي للمجتمع المدني في مصر

أغلق القضاء المصري أخيرا ما عُرف بقضية التمويل الأجنبي للعشرات من المنظمات الحقوقية والمجتمع المدني بعد مضي نحو عشرة أعوام على تداولها أمام المحاكم، دون إدانات، وأكد براءة من اتهموا بتلقي أموال من جهات أجنبية، ما يعني طي واحدة من الصفحات القاتمة التي دار حولها جدل وتداخلت فيها عوامل مختلفة جعلتها معقدة، سياسيا وأمنيا وحقوقيا واجتماعيا، ومن القضايا التي يحمل غلقها دلالات عدة.
وتخلصت الحكومة من صداع مزمن طاردها داخليا وخارجيا في السنوات التي كانت فيها القضية معروضة أمام القضاء، وحققت المنظمات التي دارت حولها شبهات والجهات المعنية بتطور المجتمع المدني نصرا معنويا مهما، فغلق القضية جنائيا يؤكد أن القائمين على المنظمات التي اتهمت والإجراءات التي اتخذت لم تكن صائبة.
ولا أعلم هل سيتم التعويض عن مصادرة الأموال والمنع من السفر لفترة ووضع البعض في السجون أم ستكون البراءة كافية سياسيا وتجب ما قبلها حقوقيا، أو حدثت تفاهمات ودية لغلق هذا الملف وعدم البحث في نتائجه السابقة أو فتح حوار حرج حول تداعياته اللاحقة، فالبراءة وحدها تحمل الكثير من المضامين الإيجابية للمتضررين من القضية، وهو معنى رمزي مهم لمن تابعوا القضية ومراحلها المختلفة.
لن تختفي قضية التمويل الأجنبي لمجرد وضع ترسانة قوانين تحاصر أنشطة المجتمع المدني، ولن يتوقف بعض الحقوقيين عن ممارسة شغفهم السياسي بالعمل الأهلي عموما
فمن بقي من أصحاب المنظمات التي اتهمت في قضية التمويل الأجنبي ويحرصون على استمرار نشاطهم، عليهم التكيف مع الواقع الجديد بكل مكوناته، فقد صدرت مجموعة من التشريعات خلال السنوات الماضية لا تسمح بتكرار اللغط الذي حدث، وترسانة القوانين التي صدرت لتنظيم نشاط العاملين في مجال المجتمع المدني وضعت قيودا صارمة على مسألة التمويل الأجنبي، ولن تتمكن أيّ منظمة من الالتفاف عليها، فقد جرت معالجة الثغرات التي استغلتها بعض المنظمات وأحدثت التباسا كبيرا.
وحرصت الحكومة المصرية الفترة الماضية على سد غالبية المنافذ التي يأتي منها القلق السياسي، وقننت الكثير من الإجراءات المطلوبة للمجتمع المدني ووضع حد لفوضى سادت منذ عقدين، ومن خلالها تسللت جهات أجنبية لتمويل جماعات إسلامية وليبرالية ويسارية محلية، بما مثل ضغطا على كاهل نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك، والذي لعبت طوائف المجتمع المدني دورا في إسقاط نظامه عبر ثورة يناير 2011.
واستفاد النظام المصري الحالي من أخطاء تجربة مبارك، وضيّق الخناق على المنظمات الحقوقية وتلك العاملة في حقل المجتمع المدني، وكانت أشبه بأدوات وأذرع متقدمة تستطيع التأثير في المجتمع، والبيئة التي تنشط فيها، سلبا أو إيجابا، ونجحت في إحداث حراك سياسي، مستفيدة من ضعف الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم في عهد مبارك وعدم قدرته على مناطحتها في شارع كان ناقما على جزء كبير من تصورات الحزب وسياساته، الأمر الذي وظفته جيدا منظمات لها أجندات سياسية خفية.
وأُغلقت قضية التمويل بعد استكمال عقد الإجراءات التي اتخذتها الحكومة لضبط الأوضاع، ووصول غالبية المنظمات إلى قناعة بأنها غير قادرة على تبرير أنشطتها مع تمكن جهات رسمية من القبض على دفة المجتمع المدني وتشكيل مؤسسات وتحالفات تمارس دورها بالمفهوم المباشر للعمل الأهلي ويقتصر على تقديم مساعدات ذات بعد اقتصادي، باعتباره الشق الأكثر إلحاحا لفئات عريضة في المجتمع.
وكان تطويق أنشطة المجتمع المدني البعيدة عن رؤية الحكومة جزءا أساسيا من خطة إعادة هندسة المشهد الداخلي في مصر بطريقة تقضي على عشوائية العمل الأهلي، وتحطم الأهداف السياسية التي تحملها منظمات تتدثر برداء حقوق الإنسان، وتكسر شوكة بعض التدخلات الخارجية التي وجدت في المجتمع المدني رأس حربة مناسبة لمناكفة السلطة في مصر ومحاولة الضغط عليها عند الضرورة.
وتم تقويض هذه المعادلة بإعادة تقنين أنشطة منظمات المجتمع المدني بعد فترة من حصارها، وشيوع المفهوم المصري الواسع لحقوق الإنسان التي لا يقتصر دورها على الشق السياسي، والتفاهم الضمني من حين إلى آخر مع بعض الدول الغربية التي تستخدم هذه الورقة ضد القاهرة، وتوسيع نطاق المصالح الحيوية بين الجانبين، إلى أن بدأ المنطق المستخدم في الخطاب الغربي ينهار مع ازدواجية المعايير حيال التعامل مع حرب إسرائيل على قطاع غزة، والتي نزعت الكثير من الجوانب المنطقية لدى من تبنوا خطابا إنسانيا هم أول من عصفوا به عندما أصبحت إسرائيل طرفا.
للتمويل منافذ عدة يستطيع أن يتسلل منها إلى قلب أيّ مجتمع، مهما كانت صلابة أو ضعف حقوق الإنسان فيه.
كما لا يخلو غلق قضية التمويل الأجنبي في مصر من دلالات بشأن تزامنها مع التراجع الحاصل في المتاجرة بملف حقوق الإنسان من قبل بعض الدول الغربية، والتي لن تتمكن من التصدي لما يمكن أن تعتبره تجاوزات فيه والدخول في خلافات حقيقية مع دول ترى أنها تنتهك معاييره أو حتى تجرؤ على تقديم تمويلات لأهداف سياسية، فقد أصبحت قنوات الدولة الرسمية هي الوحيدة التي تسمح بتمرير أموال لأيّ منظمة محلية، وفي يدها كل التفاصيل عن قصة التمويل ووجهته النهائية.
وأسهم خمول مفعول حقوق الإنسان على المستوى الغربي في تمكين الحكومة المصرية من التسامح مع بعض منظمات المجتمع المدني، وغض الطرف عن تلك التي تعمل بطريقة قانونية وواضحة في أهدافها، ولا خوف من تجاوزات أو أجندات أو تلاعب يمكن أن يحدث في منتصف الطريق، فكل الأمور أصبحت تحت سيطرة أجهزة الدولة، وانتهت مرحلة الفوضى التي كان أيّ شخص يملك منظمة حقوقية (أو دكانا يبيع منه في بعض الأدبيات الشعبية) أن يجلب تمويلا من جهات خارجية، ويحقق من خلاله أهدافه المادية، ومرامي الجهة الأخرى السياسية، وربما الأمنية.
وتطرق حديث التمويل في وقت سابق إلى زاوية منطقية وطُرح سؤال جوهري حول كيف تتلقى الحكومة مساعدات ومنح من دول ومؤسسات أجنبية وتحرم منظمات المجتمع المدني منها، بحجة أن بعضها يمثل خطرا على الأمن القومي للبلاد؟
ولم تتمكن الحكومات المتلاحقة من تقديم إجابة شافية ومقنعة لهذا السؤال، واكتفت بالتشكيك المستمر في نوايا القائمين على المنظمات الحقوقية، وتأكيد نزاهة الجهات الرسمية، وهو السؤال الذي تردّد مؤخرا وزادت أهميته مع توسع الحكومة الحالية في تلقي المساعدات والمنح والدعم من جهات مختلفة، واكتفت بالصمت أيضا، مع إطلاق حزمة إجراءات لتقليص أنشطة المجتمع المدني خارج عباءتها.
ولن تختفي قضية التمويل الأجنبي لمجرد وضع ترسانة قوانين تحاصر أنشطة المجتمع المدني، ولن يتوقف بعض الحقوقيين عن ممارسة شغفهم السياسي بالعمل الأهلي عموما، ولن تمتنع الجهات الأجنبية عن تقديم دعمها المادي لمنظمات محلية، وسوف يظل كل طرف يتحايل على الآخر لتحقيق أهدافه، فقد بات للتمويل منافذ عدة يستطيع أن يتسلل منها إلى قلب أيّ مجتمع، مهما كانت صلابة أو ضعف حقوق الإنسان فيه.