التكنولوجيا وسيلة جسر الهوة بين الإدارة والمواطن

عادة ما يرافق العودة المدرسية، وهو الحدث الذي تعيشه كل الأسر على اختلاف مواقعها الاجتماعية والمادية، كثير من الحركية العائلية والاجتماعية على جميع المستويات النفسية والمادية، من خلال تهيئة الظروف المناسبة لعودة أقل ما يمكن أن يقال بشأنها إنها عادية وطبيعية، وهو أمر طبيعي باعتبار قيمة الحدث.
ترافق العودة المدرسية جملة من التدابير الخاصة بقطاع التربية والتي تلقي بظلالها أيضا على قطاعات أخرى لعل أهمها قطاع النقل العمومي وقطاع البنوك وقطاع البريد، بالإضافة طبعا إلى قطاع الخدمات المتعلق بتوفير اللوازم المدرسية والملابس العادية والرياضية والأحذية.
وأهم هذه الاستعدادات المناشير والإجراءات المنظمة للعملية التي تصدر عن الهياكل المختصة لوزارة التربية، ومنها مثلا إلزام التلاميذ خلال العودة المدرسية 2018/2019 بتونس، بالتسجيل عن بعد باعتماد البطاقات النقدية الإلكترونية والمواقع الإعلامية المخصصة لذلك، وكل ذلك في إطار تعصير الخدمات المدرسية ضمن نسق الإصلاحات في القطاع.
لا أحد ينكر جديّة المسعى لتعصير القطاع وجعله مواكبا للاستعمالات التكنولوجية التي تيسّر بالتأكيد التواصل بين الإدارة والمواطن وتجعلها أكثر فاعلية، ولكن التجربة التي يعيشها الأولياء والتلاميذ هذه الأيام، انقسمت حولها الآراء بين مؤيّد ومعارض لهذا المسار وكل طرف يبرّر موقفه بجملة من الوقائع والمؤيدات.
خلال كل عودة مدرسية تستنفر الأسر والمجتمعات كل طاقاتها النفسية والمادية لإنجاح انطلاقة المسار التعليمي لمنظوريها، يعني ذلك أن كل الأضواء والاهتمامات ستسلط بالتأكيد على هذا الحدث، وأي تغيير يطرأ على ما تعوّد عليه الناس وألفوه يصبح مثار جدل يتوسّع بين أفراد العائلات ولدى مختلف الأطياف الاجتماعية.
تعوّد الأولياء والتلاميذ على التسجيل للعام الدراسي الجديد في المؤسسات التربوية وكانت الإجراءات والوثائق المطلوبة بسيطة وغير مكلفة، وصل بمعلوم مالي يقع اقتناؤه مع ظروف وطوابع بريدية من مراكز البريد، مع مجموعة صور شمسية ومضمون ولادة، والإمضاء على النظام الداخلي للمؤسسة من طرف ولي الأمر.
أما الإجراء الجديد فيتمثل في التسجيل عن بعد وهذا يتطلب اقتناء البطاقات الإلكترونية من مراكز البريد ثم شحنها بالمبلغ المالي المطلوب ثم الولوج إلى الموقع المخصص للغرض ثم القيام بالتسجيل وسحب مطبوعة التسجيل والاستظهار بها لدى المؤسسة التربوية.
انبثق عن هذا الإجراء موقفان أساسيان: موقف مؤيّد للخطوة باعتبارها انخراطا طبيعيا وضروريا في المنظومة الإعلامية الوطنية، لأنّ وسائل الاتصال والتواصل الحديثة غيّرت وجه العلاقات البشرية واكتسحت جميع مجالات الحياة الاجتماعية والفكرية والثقافية والاقتصادية، وشملت حركة التعصير العلاقة بين المواطن والإدارة الخدمية.
ويبرّر أصحاب هذا الرأي صحّة الإجراء ومردوديته بأنه وسيلة لربح الوقت، والتنقيص من حجم الوثائق المطلوبة، وتجاوز الاكتظاظ الذي يحصل في المؤسسات التربوية بهذه المناسبة، والأهمّ من كل ذلك الاستغناء عن الإطار البشري الذي كان يخصص لإتمام إجراءات الترسيم، وتوجيهه للقيام بأعمال إدارية أخرى في صالح سير العمل.
أما المعارضون فيبررون معارضتهم بصعوبة إتمام العملية لصنفين من الأولياء؛ الذين لا يحسنون استعمال الإنترنت وبالتالي الولوج إلى الموقع المختص بالتسجيل عن بعد وفي ذلك مشقة البحث والاستنجاد بمحال إسداء خدمات الإنترنت بمقابل مادي قد يتضاعف لشدة الإقبال عليها، أما الاكتظاظ في مراكز البريد فيجعل طالبي الخدمة ينتظرون لساعات في طابور طويل في جوّ خانق من حرارة الصيف الملتهبة.
أما قاطنو الأرياف والجبال والقرى النائية فإنهم يذوقون الويلات نتيجة بعد المسافة التي تفصل بين أماكن سكنهم ومراكز البريد ومحال إسداء خدمات الإنترنت، فيتجشمون مشقة التنقل وما ينجر عن ذلك من مصاريف مالية غير منتظرة. أضف إلى ذلك ضعف أو تقطع تدفق الإنترنت في بعض الأماكن ما يصعّب إنجاز التسجيل في الوقت المناسب وقد يتأخر الموعد.
السعي إلى عصرنة الإدارة أمر إيجابي وفي غاية الأهمية لأنه يسهّل على المواطن إنجاز مهامه الإدارية ولعل أبرزها التسجيل المدرسي ومدى علاقة كل الأسر على اختلافها بهذا الحدث السنوي الموسمي، ولكن المآخذ فيركّز أصحابها على الارتجالية في التنفيذ، فأي مشروع تعصير طموح لا بدّ أن تسبق مرحلة التنفيذ فيه مراحل استعدادية كثيرة لعل أهمها توعية المواطن وترغيبه في الإقبال على المشروع الجديد بمعرفة أولا ثم بإيمان بجدواه الإدارية ومردوديته على الفرد والعائلة والمؤسسة التربوية على حدّ السواء.
من الضروري الاستعداد بالتعريف بالمشروع وتوضيح مدى الحاجة إليه ومدى تقريبه للخدمات الإدارية، ثمّ تعليم التلاميذ الانخراط مبكرا في النسق الاجتماعي العام ليكونوا في المستقبل مواطنين يحسنون استعمال التكنولوجيا الحديثة ويساهمون بدورهم في تطوير مجتمعاتهم.
من الضروري أيضا التفكير في خفض تكاليف التسجيل عوضا عن رفعها ما يؤثر سلبا على الطبقات الضعيفة ومحدودة الدخل. كيف يفعل من يقطنون عمق الأرياف وسفوح الجبال والقرى النائية دون مواصلات ودون تغطية للإنترنت؟ فالأجدر قبل إطلاق المشروع جعله على الأقل اختياريا. وعموما هي خطوة لا بد منها بما فيها من إيجابي وسلبي.