التكنولوجيا الرقمية تعزز قبضة الاستبداد والدكتاتورية

الأنظمة الاستبدادية التي تستخدم القمع الرقمي تواجه أخطار أقل من الاحتجاجات مقارنة بالأنظمة التي لا تعتمد أدواته.
الأحد 2020/03/08
تقنيات باهرة محفوفة بالعواقب

يبحر العالم في سكرة وانبهار في تيار الانقلابات التكنولوجية المتسارعة، التي لا يمكن وقفها أو حتى مقاومتها، دون كثير من الانتباه للطبقات العميقة من الأعراض الجانبية، التي يبدو أن من أخطرها إتاحة أدوات خارقة في قبضة السلطات المستبدة.

أحد الأخطار الكبيرة التي تحملها الثورة الرقمية تكمن في الأدوات التي تتيحها لنقل قبضة الاستبداد والدكتاتوري إلى مستويات، تبدو معها كل ممارسات الأنظمة السابقة بدائية وغير فعالة.

نعم، هناك جدل كثير بشأن حماية الخصوصية والحريات الفردية ومنع الاختراقات والهجمات على الأفراد والمؤسسات، لكنها تبدو عاجزة ترقيع الفجوات ومواجهة الأدوات الهائلة التي تتيحها التكنولوجيا للحكومات والمؤسسات والقراصنة للتحكم بحياتنا.

يعتقد كثيرون أن قبضة الاستبداد بلغت ذروتها خلال الحرب الباردة، حين تضخمت الأجهزة الأمنية وجندت الملايين من الجواسيس والمخبرين لإحصاء أنفاس مواطنيها قبل أعدائها. ولم يقتصر ذلك على المعسكر الشرقي بل كان منتشرا في المعسكر الغربي ولو بدرجة أقل.

وظهرت ملامح انحسار تلك السياسات مع انهيار جدار برلين. وساد بعد ذلك تفاؤل في بداية الألفية الجديدة بأن الإنترنت والهاتف النقال سيساعدان الأفراد في الوصول إلى المعلومات وإقامة روابط وبناء مجتمعات جديدة.

وبلغ هذا التفاؤل ذروته في أوائل 2011 حيث سهّلت وسائل التواصل الاجتماعي الإطاحة بعدد من الأنظمة الدكتاتورية في الشرق الأوسط.

لكن يبدو اليوم أن التكنولوجيا أصبحت تتيح أسلحة جديدة لعودة قبضة الاستبداد بدرجة تفوق الوسائل التقليدية بملايين المرات ولا تحتاج إلى جواسيس ومخبرين يتعقبون خطوات الأفراد.

مجلة فورين أفيرز خصصت في عدد الشهر الحالي بحثا مطولا لـ خفايا دور التكنولوجيا في تعزيز قبضة الاستبداد والدكتاتورية أعده أندريا كيندال تايلور وإريكا فرانتز وجوزيف رايت.

شبح الاحتجاجات

إعادة تشكيل القمع ليتناسب مع معايير العصر الحديث
إعادة تشكيل القمع ليتناسب مع معايير العصر الحديث

يقول التقرير إن التقنيات الحديثة توفر للأنظمة الدكتاتورية أساليب أكثر فاعلية بمراقبة المعارضة بطرق أكثر سريّة ولا تحتاج إلى موارد كبيرة مقارنة بعمليات التتبع التقليدية.

وتشبه الخطورة أحداث رواية 1984 لجورج أورويل، حين تصل الرقابة الذاتية إلى ذروتها، حين يدرك جميع سكان الدول المستبدة أنهم مراقبون في كل حركاتهم فيغيرون سلوكهم دون أن يلجأ النظام إلى القمع الجسدي.

ولأن التكنولوجيا تتيح المجال أيضا للذين يسعون لإسماع أصواتهم والوقوف بوجه الأنظمة القمعية، وتزيد الضغوط عليها من قبل شعوبها، فإن الأنظمة الاستبدادية أصبحت تعتمد التكنولوجيا لإعادة تشكيل القمع ليتناسب مع معايير العصر الحديث.

ويقول تقرير فورن أفيرز إن الأنظمة الاستبدادية الرقمية أصبحت أكثر صمودا من الأنظمة الأقل تطورا، ومن جميع الأنظمة في العهود السابقة.

المتفائلون بالتقدم التكنولوجي في فجر الألفية كانوا يتوقعون أنها ستطيح بالأنظمة الاستبدادية، لكن تبين اليوم أنها تستفيد من الإنترنت والتكنولوجيات الجديدة الأخرى.

أدت التكنولوجيات الجديدة مثل وسائل التواصل الاجتماعي إلى تقليص الحواجز بين المواطنين العاديين وسهل التنسيق ودعوات التجمّع لتحدي الحكومات القمعية، التي لا تستجيب لمطالبهم.

وتشير البيانات إلى أن 60 في المئة من الحكومات الدكتاتورية واجهت احتجاجات في العقدين الماضيين. ويرى التقرير أن تزايد عدد الاحتجاجات يمثل إشارة واضحة للاضطرابات المستمرة التي تواجهها العديد من الحكومات الاستبدادية.

ويبدو أن تلك الأنظمة لم تتمكن في بداية الثورة التكنولوجية من التأقلم معها، حيث شهدت الفترة بين عامي 2000 و2017 سقوط 44 نظاما مستبدا سواء عن طريق الاحتجاجات أو الانتخابات التي أجبرت على تنظيمها.

لكن سرعة انتشار المنظومات الرقمية لمراقبة البيانات والتعرف على الوجوه تنذر بطغيان رقابة الحكومات وتجسسها على جميع السكان وعودة الاستبداد، بل وتزايده حتى في الأنظمة التي لم تكن مستبدة ويحكمها نظام ديمقراطي.

وسائل السيطرة

الدول التي يرتفع فيها استخدام القمع الرقمي يزداد فيها استخدام أشكال العنف
الدول التي يرتفع فيها استخدام القمع الرقمي يزداد فيها استخدام أشكال العنف

تشير دراسات عالمية شملت 202 دولة إلى أن الأنظمة الاستبدادية التي تستخدم القمع الرقمي تواجه أخطار أقل من الاحتجاجات مقارنة بالأنظمة التي لا تعتمد تلك الأدوات.

وقد نجحت احتجاجات في الإطاحة بحكومات لم تكن تملك وسائل رقمية متطورة مثلما حدث في منطقة الشرق الأوسط وتايلند وبلدان أفريقية، في حين تمكنت كمبوديا من إنهاء الاحتجاجات بعد تصعيدها للقمع الرقمي.

فقد لجأت الحكومة الكمبودية إلى إنشاء “فريق الحرب السيبرانية” لمراقبة الإنترنت عام 2014 وأقرت قانونا يمنحها سيطرة مطلقة على الاتصالات وأنشأت هيئة تنفيذية تمكّنها من تعليق خدمات شركات الاتصالات وفصل موظفيها.

ونتيجة ذلك فشلت حركة الاحتجاج في كمبوديا ولم تشهد سوى احتجاج واحد مناهض للحكومة في عام 2017 مقابل 36 احتجاجا في عام 2014 عندما كانت حركة المعارضة في ذروتها.

وتشير بيانات تقرير فورن أفيرز إلى أن الدول التي يرتفع فيها استخدام القمع الرقمي يزداد فيها استخدام أشكال العنف مثل التعذيب وقتل المعارضين. ويشير ذلك إلى أن الأنظمة المستبدة لا تستبدل القمع التقليدي بالقمع الرقمي.

وتؤكد أن الأدوات الرقمية تسهل تحديد المعارضين بطرق أكثر فعالية. ويقلل ذلك الاستهداف من الحاجة إلى اللجوء إلى القمع العشوائي الذي يمكن أن يؤدي إلى ردة فعل شعبية وانشقاقات في صفوف النخبة.

نموذج الصين

البرامج الذكية تنجب أدوات خارقة للتجسس والمراقبة
البرامج الذكية تنجب أدوات خارقة للتجسس والمراقبة

يعدّ تطور المراقبة التي تعتمد الذكاء الاصطناعي العنصر الأهم في الاستبداد الرقمي، والتي تضم الكاميرات عالية الدقة وتقنيات التعرف على الوجه والبرمجيات الخبيثة المصممة للتجسس وتحليل النصوص الآلي ومعالجة البيانات الكبيرة.

تلك الوسائل فتحت الأبواب لأساليب جديدة لمراقبة المواطنين، تسمح للحكومات بتحديد المنشقين في الوقت المناسب واستباق الأحداث في بعض الأحيان، وهي وسائل لم يستغلها أي نظام مثل الحكومة
الصينية.

يجمع الحزب الشيوعي الصيني كمية هائلة من البيانات عن الأفراد والشركات، تشمل الإقرارات الضريبية والبيانات المصرفية وتاريخ الشراءات والسجلات الجنائية والطبية. ثم يستخدم النظام الذكاء الاصطناعي لتحليلها وتحديد معايير “السلوك المقبول” وزيادة نطاق السيطرة على المواطن.

ويمكن أن يجد الأفراد الذين يعتبرون “غير جديرين بالثقة” أنفسهم مستبعدين تلقائيا من المزايا التي تقدمها الدولة، مثل استئجار شقة دون إيداعات أو حتى السفر الجوي أو بالقطار.

ولا يخفي الحزب الشيوعي الصيني تطويره لهذا النظام، ويقول إنه سيؤدي هذا إلى تحسين ما تسميه الحكومة “الإدارة الاجتماعية”.

وتجسّد الصين كيفية اعتماد القمع الرقمي لتقوية القمع الجسدي. فقد احتجزت الحكومة أكثر من مليون من مسلمي الإيغور في معسكرات “إعادة التعليم” في وقت تراقب جميع أفراد تلك الأقلية خارج المعسكرات من خلال برامج التعرف على الوجه.

مؤسسة فريدم هاوس:  مستويات القمع ازدادت نسبيا بفعل الأدوات الرقمية رغم عدم ارتفاع عدد الأنظمة الاستبدادية في العالم
مؤسسة فريدم هاوس: مستويات القمع ازدادت نسبيا بفعل الأدوات الرقمية رغم عدم ارتفاع عدد الأنظمة الاستبدادية في العالم

وجمعت بكين بيانات عن سكانها الإيغور، تتضمن البصمة الوراثية وممارساتهم الدينية. وهي تنظّم هذه العمليات كإجراءات تزعم أنها تهدف لفرض النظام العام وحماية الأمن القومي.

كما تتيح التقنيات الحديثة سيطرة أكبر للقيادة الصينية على جميع المسؤولين في الأجهزة الحكومية، حيث تستخدمها في تقييم أدائهم وكشف عمليات الفساد.

كما تستخدم الأدوات الرقمية والذكاء الاصطناعي في مراقبة كميات كبيرة من الصور والنصوص على الإنترنت وفي حجب أي محتوى يتعارض مع أهداف النظام فور نشره.

ويقول تقرير فورن أفيرز إن الأنظمة الاستبدادية الرقمية تتمتع بوسائل دفاع إضافية تصل إلى منع وصول جميع المواطنين إلى الإنترنت لقطع التواصل بين أعضاء المعارضة، حين تتصاعد الاحتجاجات.

وقد لجأت الحكومة الإيرانية إلى إغلاق الإنترنت في جميع أنحاء البلاد أثناء الاحتجاجات التي انتشرت في البلاد خلال شهر نوفمبر الماضي.

وتشير دراسة لمؤسسة “فريدم هاوس” إلى أن العديد من الدول تسعى لمحاكاة الصين في مجال الرقابة وتتبع المواطنين. وتسعى الحكومة الروسية للحد من حرية مواطنيها على الإنترنت عبر اعتماد نظام “جدار الحماية العظيم” الصيني.

وتتجه أعداد من المسؤولين في الأنظمة الاستبدادية الأفريقية إلى الصين للمشاركة في دورات تدريبية حول “إدارة الفضاء الإلكتروني” والتعرف على الأساليب الصينية المعتمدة في التحكم والسيطرة.

أخطار متزايدة

سن تشريعات لمنع الاستثمار في الشركات التي تُصنّع أدوات للقمع
سن تشريعات لمنع الاستثمار في الشركات التي تُصنّع أدوات للقمع

تقول دراسة فريدم هاوس إن مستويات القمع ازدادت نسبيا بفعل الأدوات الرقمية رغم عدم ارتفاع عدد الأنظمة الاستبدادية على مستوى العالم بنسبة كبيرة في السنوات الأخيرة.

وتحذر فورن أفيرز من تصاعد خطر مساهمة التكنولوجيا في تصاعد موجة الاستبداد. وتؤكد أن أبحاثها تظهر أن الأدوات الرقمية أدت إلى تقييد الحريات في الديمقراطيات الهشة.

وتضيف أن التكنولوجيات الحديثة يمكن أن تعزز كفاءة الحكومة وتزيد من قدرتها على مواجهة التحديات الأمنية مثل الجريمة والإرهاب، لكنها يمكن أيضا أن تخدم إخماد أصوات المعارضة وتقييد أنشطتها.

وتقول إن الحد من انتشار الاستبداد الرقمي يتطلب من المجتمع الدولي معالجة آثار التكنولوجيات الحديثة الضارة على البلدان التي تعيش تحت الأنظمة الاستبدادية والديمقراطية.

فورن بوليسي: التقنيات الحديثة توفر للأنظمة الدكتاتورية أساليب أكثر فاعلية للمراقبة بطرق أكثر سرية ولا تحتاج إلى موارد كبيرة
فورن بوليسي: التقنيات الحديثة توفر للأنظمة الدكتاتورية أساليب أكثر فاعلية للمراقبة بطرق أكثر سرية ولا تحتاج إلى موارد كبيرة

ويدعو تقرير صادر عن “مركز الأمن الأميركي الجديد” في ديسمبر 2019 الكونغرس إلى تقييد تصدير الأجهزة التي تتضمن تقنيات التعرف على الهوية البيولوجية والوجه والصوت، ومعاقبة الشركات التي توفرها للأنظمة الاستبدادية المتورطة في انتهاكات حقوق الإنسان.

ويشدد على ضرورة سن تشريعات لمنع الاستثمار في الشركات التي تُصنّع أدوات للقمع بتقنية الذكاء الاصطناعي، مثل شركة “سينس تايم”
الصينية.

وطالب التقرير بتفعيل قانون ماغنيتسكي، الذي يسمح لوزارة الخزانة بمعاقبة الأطراف الأجنبية المتورطة في انتهاكات حقوق الإنسان والذين يسهلون تلك الممارسات بتقنيات الذكاء الاصطناعي.

وتقول فورن أفيرز في خلاصة تقريرها إن تقنيات الذكاء الاصطناعي والابتكارات التكنولوجية الأخرى كانت تعد بتحسين الحياة اليومية، لكنها ساهمت في تقوية قبضة الأنظمة الاستبدادية، حيث يرسم القمع الرقمي المنتشر صورة قاتمة للسيطرة الحكومية المتزايدة وتقلص الحريات الفردية.

وتضيف أن تلك الرؤية ينبغي أن تكون الوحيدة. فمثلما تسابقت الأنظمة الاستبدادية لاكتساب أدوات قمع جديدة، ينبغي على منظمات المجتمع المدني والأنظمة الديمقراطية الاستفادة من عصر التحول التكنولوجي في تطوير أفكار ومفاهيم جديدة لإحياء التفاؤل بالتكنولوجيا، الذي انتشر مطلع القرن الحادي والعشرين.

17