التغيّرات غير المسبوقة للمناخ ترسم شرقا أوسط جديدا

تفرض التقلبات غير المسبوقة للمناخ والتي يتحمّل الإنسان مسؤوليتها بالنسبة الأكبر، إعادة النظر في السياسات الطاقية لدول العالم كافة، ومن بينها دول الشرق الأوسط التي تحتل المراتب الأولى في قائمة الدول المعتمدة على الوقود الأحفوري، والتي لا تولي اهتمامات كبرى لمخططاتها المستقبلية للطاقة بما يضمن استدامة الحياة للأجيال القادمة في تلك المنطقة.
واشنطن - يواجه العالم حاليا تقلبات شديدة في أحوال الطقس ما بين فيضانات عارمة وهطول غزير للأمطار وارتفاع قياسي في درجات الحرارة وحرائق غابات، وتشير أصابع الاتهام في ذلك كله إلى مصدر وحيد وهو تغيّر المناخ، الذي تدفعه الانبعاثات الكربونية في الهواء.
ويلقي هذا الوضع بظلاله على منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص، كونها تنتج وتستهلك قدرا كبيرا للغاية من الوقود الأحفوري المسبب للانبعاثات الكربونية التي تؤدي بدورها إلى تغير المناخ.
ووصف تقرير أممي أعدته لجنة علمية تابعة للأمم المتحدة التغيرات التي حدثت للمناخ بأنها “غير مسبوقة”، معتبرا أن البشر هم المسؤولون بشكل “مؤكد”عن تغيرات المناخ، ودعا إلى إجراء تخفيضات جذرية في الانبعاثات من أجل الحفاظ على درجة الحرارة العالمية أقل من الحدود التي نصت عليها اتفاقية باريس للمناخ لعام 2015.
وجاء في التقرير الصادر الاثنين عن الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ أن “نطاق التغيرات الأخيرة في جوانب النظام المناخي ككل والحالة الراهنة للعديد من جوانب النظام المناخي غير مسبوقين منذ قرون أو عدة آلاف من السنين”.
جون الترمان: الشرق الأوسط أكثر منطقة انغماسا في عواقب تغيّر المناخ
وأكد واضعو التقرير أنه في ضوء الأدلة المتاحة، فإن لديهم “ثقة عالية” في أن تركيزات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي كانت أعلى في عام 2019 مما كانت عليه في أي مرحلة خلال مليوني عام على الأقل، كما أن درجة حرارة سطح الأرض “ارتفعت منذ عام 1970 بشكل أسرع مقارنة بأي 50 عاما أخرى خلال الألفي عام الماضية على الأقل”.
وقام 234 خبيرا من 66 دولة بكتابة التقرير الذي يعد الأكثر شمولا والذي تصدره اللجنة التابعة للأمم المتحدة منذ عام 2013، وأوضح أن العديد من آثار تغيّر المناخ لم يعد من الممكن تجنبها اليوم.
ويشكّل تزايد الضغوط البيئية والتحركات الدولية في هذا الاتجاه دافعا للبلدان المصدرة للنفط لاتخاذ موقف جاد بالنسبة إلى التخلي عن الذهب الأسود.
ويقول المحلل جون بي.ألترمان، مدير برنامج الشرق الأوسط في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواشنطن، إنه لا توجد منطقة في العالم أكثر انغماسا في عواقب تغيّر المناخ العالمي من الشرق الأوسط.
وتمثل المنطقة نحو 30 في المئة من الإنتاج العالمي للنفط، وتعتبر عائدات النفط قاطرة الإيرادات الحكومية في المنطقة، إما لأن الدول تنتج النفط، أو لأن الدول تنتج قوة عاملة تعمل في البلدان المصدرة للنفط وترسل الأموال إلى وطنها.
وبسبب عائدات النفط، تستطيع حكومات الشرق الأوسط توظيف أعداد كبيرة من سكانها، وهي تفعل ذلك. ومع تحول العالم عن النفط كمصدر للطاقة، فإن اقتصاديات الشرق الأوسط سوف تتغير بشكل عميق.
ويضيف ألترمان في تقرير نشره مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، أنه في الوقت نفسه، فإن الشرق الأوسط عرضة لعواقب تغير المناخ. فالمنطقة بالفعل فقيرة بشدة في المياه، حيث أن في الشرق الأوسط تسع دول من الدول العشر الأكثر فقرا
بالنسبة للمياه. فالجفاف يدفع المزارعين بعيدا عن أراضيهم، والمدن الساحلية العديدة في المنطقة مهددة بارتفاع مستوى سطح البحر، وارتفاع درجات الحرارة في الصيف يتضافر بشكل متزايد مع الرطوبة لتعريض بقاء الإنسان للخطر.
وبالتالي فإن الشرق الأوسط متأصل في جانبي قضية تغيّر المناخ. ومع تغير أنماط الاستهلاك العالمي، سوف يتغير الشرق الأوسط تغيرا عميقا. ومع تغير المناخ، سيتغير الشرق الأوسط تغيرا عميقا أيضا.
ويشير إلى أن استهلاك البلدان النامية للطاقة يرتفع ارتفاعا حادا مع زيادة الدخول، ومن المرجح أن تعتمد على المعدات والتكنولوجيا القائمة لفترة أطول.
وفي حين يستطيع الأثرياء إنفاق الآلاف على المنتجات الخضراء، فإن النفط والغاز سيظلان بالنسبة للكثير من سكان العالم الوقود المتاح بأسعار معقولة، لكن حكومات الشرق الأوسط قد لا تكون مستعدة لخفض إنتاجها من النفط.
ومن شأن الانخفاض المستمر في الاستهلاك العالمي، مهما كان صغيرا، أن يضغط على دول الخليج لزيادة الإنتاج في محاولة لطرد المنتجين الأعلى تكلفة من السوق، وضمان عدم تركهم مع براميل أقل قيمة في الأرض عندما ينخفض الاستهلاك أكثر.

ويقول ألترمان إن الحكومات في جميع أنحاء الشرق الأوسط كانت تستعد لعالم ما بعد النفط لسنوات، لكنها لا تزال بعيدة عن أهدافها. وفي دول الخليج ستكون هناك حاجة لسنوات ليتم الانتقال من واقع العمال ذوي الإنتاجية العالية والرواتب المنخفضة الذين يدعمون جهود العمال ذوي الإنتاجية المنخفضة، والرواتب العالية.
وفي السعودية مثلا، أقرت السلطات منذ شهر مايو الماضي اعتماد خطة لتحقيق مبادرتين طموحتين في مجال المناخ وهما “مبادرة السعودية الخضراء” و”مبادرة الشرق الأوسط الأخضر”، وتستهدفان تحول البلد الخليجي إلى “رائد عالمي في تشكيل عالم أكثر صداقة للبيئة”.
وتتعهد مبادرة الشرق الأوسط الأخضر، وهي أول مبادرة مناخية عملية في المنطقة، بالمضي قدما في خفض الانبعاثات العالمية بنسبة 10 في المئة والتي تتجاوز حصة الشرق الأوسط من هذه الانبعاثات حاليا. كما تحدد خططا لزراعة أربعة أضعاف عدد الأشجار مما يجعلها أكبر مشروع إعادة تشجير في العالم، ولخفض الانبعاثات الناتجة عن إنتاج الطاقة الهيدروكربونية للمنطقة بأكثر من 60 في المئة.
ويقول ألترمان إن التحول في مجال الطاقة سيكون مهما لأكثر من مجرد الشرق الأوسط، فأمن الطاقة هو المحرك للكثير من استثمارات الصين الأخيرة في المنطقة.
وإذا قررت الحكومة الصينية أن أمن الطاقة فيها مستمد من المناجم في أفريقيا وليس من الآبار في الشرق الأوسط، فينبغي لنا أن نتوقع تحول الاهتمام ورأس المال الصينيين. وإذا كان هناك دور أكثر ديمومة للنفط والغاز في صورة الطاقة العالمية، فمن الممكن المزيد من التنافس بين الولايات المتحدة والصين على النفوذ الإقليمي.
ومن الممكن أن تبتعد الدول الغربية عن الهيدروكربونات لأسباب بيئية، في حين تظل الصين والعالم النامي مكرسين لها لأسباب اقتصادية. وقد يتجلى ذلك تقريبا في تخلي الولايات المتحدة عن دورها المستقبلي في الشرق الأوسط، مع اقتناص الصين الكثير من جوانب هذا التراخي.