التغيير في باكستان يؤثر على المشهد الجهادي في آسيا

إسلام أباد تعيد تقييم سياستها مع كابول والنظر في شكل علاقتها بواشنطن.
الجمعة 2022/04/22
الحكومة الجديدة أمام تحديات كبرى ومعقدة

دخلت إسلام أباد مرحلة سياسية جديدة تتزامن مع تغيرات تجري في دول الجوار وتهدد بتصاعد نفوذ الجماعات الجهادية على أراضيها. وتواجه الحكومة الجديدة تحديات كبيرة لحل جملة من الملفات العالقة وعلى رأسها مكافحة الإرهاب وتحقيق الاستقرار الاقتصادي وهي في مجملها ملفات من الصعب حلها دون تحقيق توازن في علاقة باكستان بالقوى الكبرى.

أثير جدل بعد سقوط حكومة عمران خان في باكستان حول ما إذا كان تصويت البرلمان بسحب الثقة منها انتصارا للديمقراطية أم هزيمة للسيادة الشعبية وفق اتهامات جرى تبادلها بين أنصار خان وخصومه، في حين يظل الإشكال المهم يتعلق بتداعيات التغيير الكبير في دولة متصلة بشدة بملف الإرهاب على مستقبل الجماعات المتطرفة في آسيا والعالم.

وبعد وصول شهباز شريف رئيس حزب الرابطة الإسلامية الباكستانية وزعيم المعارضة في البرلمان إلى رئاسة الحكومة عقب سحب الثقة من سلفه، يتعين على باكستان تقييم سياستها الأفغانية وإعادة تشكيل علاقاتها بالولايات المتحدة على أسس واضحة إذا رغبت في تفكيك التحديات الإرهابية التي تواجهها.

ومن الواضح أن تدهور العلاقات بين حكومة خان والولايات المتحدة كان له تأثير سلبي على ملف مكافحة الإرهاب، حيث لجأ خان الذي ينتمي إلى تيار الإسلام المحافظ بشكل متزايد إلى الخطاب الشعبوي المناهض لواشنطن بغرض إخفاء ميوله السلطوية وممارساته القمعية بحق المعارضة وإخفاقاته في إدارة الملف الاقتصادي، بل وفشله في تحقيق وعوده الإصلاحية التي كان قد تعهد بها للشباب الباكستاني.

وحاول خان الذي تولى رئاسة الحكومة في 2018 ودفع أخيرا ثمن تأثير سياساته الاستقطابية وتخاذله في ملف مكافحة الإرهاب حيث بدا لينا أكثر مما يجب في التعامل مع حركة طالبان لدرجة وصفه بـ"طالبان خان" بدلا من عمران خان، وأرجع التحركات الأميركية إلى تهيئة المناخ الداخلي لإسقاطه عقب رفضه الاصطفاف خلف مواقف الولايات المتحدة الخاصة بالصين وروسيا، ووصف ما جرى معه بـ"المؤامرة الخارجية".

يصعب فصل ما جرى من تغيير في مشهد السلطة في باكستان عبر إقصاء خان عن مصالح وأدوار الولايات المتحدة التي لا يمكن أن تترك الأوضاع في بلد تعتبره من أهم الحلفاء في آسيا للصدفة.

ويصعب أيضا فصله عن ملف الإرهاب والتصدي للجماعات المتطرفة بالنظر للاتهامات التي طالت الحكومة الباكستانية السابقة بدعم الإرهاب والتغاضي عن طالبان ومجاملة الناخبين الإسلاميين وإنتاج خطاب شعبوي تحريضي ضد الغرب زاد من حدة التطرف المجتمعي السائد بالبلاد.

تحالف مفكك

مواقف متناقضة
مواقف متناقضة 

لم يتعلق الأمر فقط بقناعات خان الشخصية ومواقفه وتحالفاته خاصة مع تركيا وتصريحاته المثيرة للقلق كوصفه لأسامة بن لادن مؤسس تنظيم القاعدة في خطاب ألقاه في يونيو الماضي بـ”الشهيد”، إنما يتعلق بسياسات عامة ورؤى نظام حكم وروايات جهاز الاستخبارات الباكستاني الذي رأى أنه هزم في مرة من المرات الاتحاد السوفييتي بمساعدة الولايات المتحدة، ثم أنه بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان هزم واشنطن بمساعدة واشنطن نفسها.

وظنت النخب الأمنية في باكستان أنه بالانسحاب الأميركي من أفغانستان لم يحقق أهدافها بعيدة المدى من وراء تدخلها المباشر في شؤون جارتهم، وفيما اعتبروا واشنطن الخاسر الأول من صعود طالبان للسلطة نظروا إلى بلدهم باكستان من منطلق كونها الظافر الخارجي الوحيد.

ووضعت إسلام أباد سيناريوهات مغرقة في التفاؤل للأوضاع بعد رحيل القوات الأميركية مؤداها إحكام الاستخبارات الباكستانية سيطرتها على أفغانستان وتدجين واحتواء حركة طالبان الباكستانية بوساطة من نسختها الأفغانية وصولا إلى استعادة الاستقرار وكف يد الجماعات المسلحة عن استهداف قوات الجيش والاندماج معا لمواجهة العدو الحقيقي وهو الهند.

سقوط حكومة عمران خان يُعد، بجانب عوامل أخرى، نتاج فشل رهانات إسلام أباد على تحالفات استخباراتها مع الجهاديين

وتدخل الولايات المتحدة في صلب هذه المعادلة كونها من وقع عليها الضرر الأكبر جراء تعاون الاستخبارات الباكستانية مع طالبان الأفغانية ومساعدتها على إعادة التسلح والتنظيم واستئناف العمليات ضد النظام الذي دعمته واشنطن في كابول بقوة.

وطمحت إسلام أباد إلى أن تؤول الأوضاع لصالحها وهي التي ظلت مهووسة بجملة من التصورات بشأن مستقبل نفوذها، أولها السيطرة على أفغانستان لتتحصل على العمق الاستراتيجي اللازم لتحدي خصمها الرئيسي الهند ولو تسبب ذلك في إغراق الولايات المتحدة في المستنقع الأفغاني من منطلق تفضيل ودعم وجود نظام طالبان على رأس السلطة لتحقيق تلك الغاية، ثم امتلاك المقدرة على تلقين الأميركيين درسا بعد أن دأبوا على التعامل مع باكستان باستعلاء وعدم تقدير لدورها في مكافحة الإرهاب بل واتهامها بالتطرف ودعم المنظمات المتطرفة.

وحرص مسؤولون في باكستان، وفي مقدمتهم رئيس الوزراء السابق خان، على الرد على الاتهامات الأميركية، حيث أرجع الرجل النزوع للتطرف الذي كان تاريخه قصيرا في بلاده إلى التحالف مع الولايات المتحدة خلال فترة الثمانينات عندما كانت تحارب السوفييت في أفغانستان، وأن المجتمع الباكستاني كان أكثر تسامحا قبل هذه الحرب.

وانعكس شعور قطاع من الباكستانيين بالضغينة والإحباط تجاه واشنطن على مواقف وتصريحات خان الذي اعترف بالتحول المجتمعي داخل بلاده صوب التطرف والعداء للغرب والولايات المتحدة عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، لكنه حمل واشنطن الجزء الأكبر من المسؤولية لكونها من قامت بتسليح الجهاديين لمحاربة السوفييت ولم يكن أمام باكستان كحليف لها إلا إقامة علاقات وثيقة مع هؤلاء المسلحين.

حرب غير عادلة

زعامة كرتونية
زعامة كرتونية 

وجد المسؤولون في إسلام أباد أن التحالف مع الولايات المتحدة في الحرب ضد الإرهاب ليس عادلا ويخدم مصالح واشنطن فقط، وجرى تصنيف باكستان كدولة داعمة للإرهاب واتهام مجتمعها بالتطرف على ألسنة بعض المسؤولين الأميركيين، على الرغم من عشرات الآلاف من الضحايا الذين قدمتهم في الحرب ضد الإرهاب، فضلا عن تكرار عدم احترام سيادة باكستان على أراضيها وكان حادث استهداف الكوماندوز الأميركية لبن لادن دون تنسيق مع الأجهزة الباكستانية أوضح شاهد على ذلك.

شعرت القيادة السياسية في باكستان بالضرر لأنها تكبدت خسائر باهظة من جراء تداعيات حرب الولايات المتحدة على الإرهاب مقابل إنكار إسهامات الدولة وتضحياتها وتعمد الإشارة إليها كدولة داعمة للإرهاب، وهو ما اعتبره خان محاولة لصرف الأنظار عن إخفاقات الولايات المتحدة وفشلها في أفغانستان وتحميل حكومة إسلام أباد المسؤولية.

بعد وصول شهباز شريف إلى رئاسة الحكومة يتعين على باكستان إعادة تشكيل علاقاتها بالولايات المتحدة على أسس واضحة

ورغم ذلك فشلت هذه الاستراتيجية التي اعتمدتها حكومة خان فشلا ذريعا، فلم تنل حكومته العوائد التي خططت لها لمساعدتها طالبان على الوصول للسلطة مجددا، ما أدى إلى تدهور العلاقات مع واشنطن التي نظرت إليها كعامل رئيسي في إخفاقها وخروجها المذل من أفغانستان.

وبدلا من أن تربح إسلام أباد وقف العمليات الإرهابية على أراضيها بالنظر للعلاقات على مستوى الفكر والعرق والأيديولوجيا بين طالبان أفغانستان وطالبان باكستان، شجعت عودة الحركة للسلطة نظيرتها الباكستانية، وهي عبارة عن تكتل من الفصائل الجهادية المناهضة لإسلام أباد تنشط داخل أفغانستان وخارجها، على تكثيف هجماتها ضد قوات الأمن في باكستان.

وحدثت انتكاسة للاستراتيجية الباكستانية التي تأسست على اعتبار عودة طالبان إلى السلطة بمثابة انتصار لحكومة إسلام أباد وأن مرحلة جديدة من الاستقرار قد بدأت في ظل وجود حكومة صديقة في كابول تديرها طالبان.

فصول جديدة

مصالح باكستان رهينة حل الملف الجهادي
مصالح باكستان رهينة حل الملف الجهادي

جرى تكثيف النشاط العملياتي لطالبان باكستان عقب التغيير الأخير في مشهد السلطة في أفغانستان واستيلاء الجهاديين على الحكم ما يعني إخلال حركة طالبان بوعودها الخاصة بمساعدة إسلام أباد لكبح جماح الإرهاب.

وعلى عكس ما خططت إسلام أباد أزال انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان مصدرا مهما للنفوذ لصالح باكستان في واشنطن، علاوة على استمرار تمرد طالبان الباكستانية، وهو ما ترجم على الأرض دوران القوى التي لجأت للتعاون والتنسيق مع الجهاديين في حلقة الخسارة والعجز عن تحقيق ما خططت له من البداية.

وإذا كان تعاون الولايات المتحدة انتهى مع الجهاديين ودعمها لمن عُرفوا بالمجاهدين العرب في أفغانستان وصل إلى نقطة الانسحاب المُذِل من أفغانستان بعد تكلفة باهظة على كل المستويات، فإن إسلام أباد التي وثقت في طالبان الأفغانية تعاني من نسختها الباكستانية التي تفكر في فعل الشيء ذاته داخل البلاد وصولا إلى مستوى إنجازات الجهاديين في أفغانستان بدلا من الرضا بالقليل الذي يُمنح لها لقبول تسوية مع الاستخبارات الباكستانية.

على عكس ما خططت إسلام أباد أزال انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان مصدرا مهما للنفوذ لصالح باكستان في واشنطن

جمعت بين واشنطن وإسلام أباد في ما يتعلق بحركات الإسلام السياسي والفصائل الجهادية نهاية طريق واحدة؛ فكلاهما لُدغا من الأفاعي التي قاما برعايتها، كما انتهت مغامرة التدخل الأميركي الطويلة في أفغانستان بالانسحاب والهزيمة، فسقوط حكومة خان يُعد، بجانب عوامل أخرى، نتاج فشل رهانات إسلام أباد على تحالفات استخباراتها مع الجهاديين، حيث

تطمح طالبان الباكستانية حاليا، وإن كانت فرصها أقل مقارنة بنظيرتها الأفغانية، إلى الضغط بأقصى ما تملك من قوة على السلطة الحاكمة لتحقيق قدر كبير من المكاسب.

وثبت بالتجربة أن المستفيد الأول من توتر العلاقات بين الولايات المتحدة وباكستان هي الجماعات المتطرفة في المنطقة وأن حكومة خان خسرت الرهان عندما بنت استراتيجيتها الأمنية على الثقة في طالبان الأفغانية وأوهام تحقيق النصر بإلحاق الهزيمة بالولايات المتحدة، وحاليا تجني باكستان تبعات خياراتها حيث تواجه رياحا معاكسة من أفغانستان فضلا عن التحدي المتمثل في تحفز أجنحة الإرهاب والتطرف في الداخل.

ركيزة أميركية

تحالف وثيق
تحالف وثيق 

لا تستطيع الولايات المتحدة بدورها الاستغناء عن باكستان كواحدة من أهم ركائز السياسة الأميركية في وسط وجنوب آسيا، ما يعني ضرورة تغيير أسلوب تعاطي المسؤولين الأميركيين مع الأوضاع في باكستان وعدم تحميلها وحدها فاتورة الفشل في الساحة الأفغانية والكف عن استسهال وصمها بالتطرف ودعم الإرهاب.

ويحتم المنطق السياسي تطوير واشنطن تعاونها وشراكتها مع إسلام أباد بهدف مواجهة الإرهابيين والمسلحين متعددي الجنسيات وتقويض نفوذ تنظيمي القاعدة وداعش في المنطقة والحد من تهديد الجهاديين للهند وهو الذي يسهم في تقويض سياسة واشنطن تجاه الصين.

ولن تتحقق مصالح واشنطن ولا مصالح إسلام أباد بتكتيكات التعامل السلبي وأساليب المناورات والطعن في الظهر وأوهام تحقيق الانتصارات على حساب الآخر ومنح الثقة للجهاديين وحركة طالبان، وهو ما كان سائدا أثناء ولاية خان القصيرة، إنما بالتعاون لضبط سلوك طالبان وحل المشكلات المستعصية المتعلقة بأمن أفغانستان واقتصادها واستقرارها.

ولن تُحدث حكومة شهباز شريف الجديدة الفارق في جملة الملفات التي تعثرت في إنجازها الحكومة السابقة سواء في ما يتعلق بمكافحة الإرهاب وتقويض حركة طالبان الباكستانية أو تقوية المسار الديمقراطي وتحقيق الاستقرار الاقتصادي داخل باكستان إلا من خلال علاقات جيدة ذات مصداقية عالية مع جميع القوى الكبرى، خاصة الولايات المتحدة، بعيدا عن المواقف الحادة والنهج الشعبوي الذي احترفه خان.

7