التطرف المجتمعي مدخل لإعادة إنتاج الإسلام السياسي في مصر

الإسلاميون يستغلون موجة الغلو المجتمعي مستفيدين من تلقي قطاع واسع من الجمهور لأفكار متطرفة على مدار عقود.
الخميس 2023/04/20
بيئة خصبة للتطرف

القاهرة – بدأت جماعات الإسلام السياسي تتبع أساليب جديدة بعد هزيمتها المدوية في مصر خلال السنوات الماضية، مراهنة على فرضية تقاطع تصورات بعض المتشددين دينيا مع توجهاتها بهدف مواصلة نشاطها وتعويض انتكاساتها في مصر والمنطقة العربية.

تستغل عناصر تنظيم القاعدة وجماعة الإخوان الجدل الجماهيري المتكرر حول قضايا يدخل الدين طرفا فيها، خاصة وأن إبداء البعض وجهات نظر انفعالية ومغرقة في الغلو يمنح المتطرفين التنظيميين فرصة لإعادة إنتاجهم في المشهد وترويج مزاعم بشأن وجود قاعدة جماهيرية تتبنى آراءهم.

وروى رئيس تحرير صحيفة الوطن المصرية أحمد الخطيب على حسابه على فيسبوك أخيرا تفاصيل نقاش دار بينه وبين خطيب أحد المساجد عقب صلاة الجمعة، بعد أن شن هجوما حادا على الإعلامي إبراهيم عيسى أثناء الخطبة وصل إلى حد اتهامه بمعاداة الإسلام والسعي لهدم ثوابته.

وأشار الصحافي المصري المتخصص في شؤون الحركات الإسلامية إلى أن اعتذار إمام المسجد وتراجعه بعد مناقشته في تجاوزاته على المنبر قد يكون بسبب ظنونه أن يكون من يناقشه (الخطيب) يشغل منصبا في أحد الأجهزة الأمنية، بما يفيد بأنه لم يكن مقتنعا بالردود التي تلقاها.

بالتزامن مع حالة الشحن من قبل قطاع من الجمهور العادي ومتشددين غير تنظيميين ضد إعلاميين وكتاب عادة ما يثيرون قضايا خلافية مسكوتا عنها ويفككون الخطاب السلفي، أعلن تنظيم القاعدة عبر إصدار دعائي إهدار دم إبراهيم عيسى وحرّض على قتله.

تعد هذه المرة الثانية خلال فترة قصيرة، التي يشن فيها تنظيم القاعدة حملة هجوم حادة ضد عيسى، داعيا إلى تصفيته جسديا.

وأُثير الجدل حول العديد من الملفات التي يبدي حيالها متطرفون تنظيميون وغير تنظيميين بآراء متشابهة مؤخرا، وابتعد جميعهم عن المواقف المعتدلة والمرنة في ما يتعلق ببعض مسائل الأحوال الشخصية مثل الطلاق وتعدد الزوجات والخلع أو قضايا خاصة بأوضاع المرأة في المجتمع، ونشر التطرف بالمدارس التي تناقشها بعض الأعمال الدرامية المعروضة خلال شهر رمضان.

oo

يستغل تيار الإسلام السياسي، الذي هُزم وهُمش، موجة الغلو المجتمعي مستفيدا من تلقي قطاع واسع من الجمهور لأفكار مغرقة في التطرف على مدار عقود من دون أن تُعالج وتُفكك بصورة تامة وصحيحة ضمن مخطط لامتصاص صدمة الهزائم وللتجهيز للعودة بقاعدة جماهيرية أوسع.

وضع عاصم عبدالماجد، القيادي الهارب بالجماعة الإسلامية المصرية، ملامح الخطة الجديدة التي تعتمد على “دفع أفراد الأمة ليناضلوا هم بعد فشل التنظيمات”، مع اكتفاء القادة المتطرفين بلعب دور “الملهمين والموجهين” للجماهير البسيطة.

ويراهن قادة جماعات الإسلام السياسي على تبني مواطنين عاديين ودعاة غير محسوبين على تنظيمات لقناعات متشددة حيال ملفات وقضايا مطروحة على الساحة المصرية، ما يشجعهم على تعزيز دعايتهم إنطلاقا من هذا التقاطع بالترويج لمزاعم، مفادها أن المبادئ والأفكار التي اقتنعوا بها لا تزال تمتلك فعالية داخل المجتمع.

تجني تنظيمات هي في عداد المهزومة مكاسب مجانية سياسية من وراء انخراط البعض في حملات وصراعات تصب في صالحها عبر تسييس رؤاهم بغية قلب الأوضاع وشق المجتمع من داخله، وإمكانية تجنيد من تعرض مخيالهم للأدلجة لتنفيذ عملية إرهابية هنا أو هناك على طريقة الذئاب المنفردة.

وسائل التواصل الإجتماعي تلعب دورا مهما في خلق قنوات تلاقي افتراضية بين المتطرفين التنظيميين والمتشديين غير المنتسبين لتنظيمات عبر تبادل الرؤى المستندة للتفسيرات الخاطئة والأحادية للإسلام

وفقدت جماعات الإسلام السياسي القدرة على التجنيد باستخدام وسائلها التقليدية في أوساط التدين الشعبي بعد انهيار مشروع الإخوان في مصر وتراجعه في المنطقة العربية عموما، ما أدى إلى فقدان أيديولوجية الجماعة، التي كانت تجذب الشباب في السابق، بريقها، وهو ما تكرر مع غالبية التنظيمات الأخرى.

لم تعد دعوات الانخراط في قتال الحكومات من منطلق الترويج لمفاهيم الحاكمية وإقامة الدولة الدينية أو الحشد وراء جماعات تتبنى التغيير عبر الانتخابات وآليات الديمقراطية، مجدية لإعادة إنتاج الإسلام السياسي وتصدره للمشهد مرة أخرى، فقد اضطر قادة التنظيمات وناشطوها إلى التركيز على الجدل حول دور الإسلام في الحياة العامة لخدمة رؤاهم.

اختلفت الأدوات والأدوار وباتت الكتل الشعبية المتزمتة تتصدر المشهد بعد أن أجبرت بعض التنظيمات والجماعات على التراجع خطوات إلى الوراء.

ويفترض قادة الجماعات أنهم أدوا ما عليهم وسبقوا وأنابوا عن الأمة وفق تصورهم للقيام بالمهمة وتحملوا ضريبة تلك المبادرة وتعرضوا للإيذاء والتنكيل، وعلى أفراد الأمة اليوم استلام زمام المبادرة لإنجاز مهمة لا تقدر عليها جماعات محدودة الأعداد والموارد.

أداة التنظيمات الرئيسية حاليا ليس العضو التنظيمي الذي يتلقى أوامر مباشرة من قادة الصف الأول لتنفيذ مهام محددة تخدم الخط الدعائي أو العملياتي أو الحربي، وبات الأكثر أهمية المتطرف غير التنظيمي الذي يعتنق آراء ضيقة تظهره على الأقل متعاطفا مع الجماعات المتشددة.

يسترجع قادة الجماعات سيناريوهات النشأة والتكوين حيث اعتمدوا ومن سبقوهم بشكل رئيسي على تعاطف قواعد شعبية مع تصوراتهم عبر الخداع بشأن خدمة الدين والانتصار لقضايا الأمة، ما منحهم حصانة مجتمعية أعاقت الكثير من جهود الفحص الدقيق من قبل الأجهزة المعنية، وهو ما مكنهم من بناء وتطوير كياناتهم.

لا تنظر جماعات العنف وكيانات الإسلام السياسي إلى كتل التطرف المجتمعي كبؤر قابلة لتشكيل تمرد كامل، وتكتفي بما تربحه على المستوى الدعائي خلال مرحلة انتقالية تفصل بين هزيمة مشروعها وبين فرضية الانتقال إلى مرحلة إعادة تعويمها بجهود متشددين غير تنظيميين.

وتلعب وسائل التواصل الإجتماعي دورا مهما في خلق قنوات تلاقي افتراضية بين المتطرفين التنظيميين والمتشديين غير المنتسبين لتنظيمات عبر تبادل الرؤى المستندة للتفسيرات الخاطئة والأحادية للإسلام.

ii

كما يستمر نشاط دعاة السلفية التقليديين من خلال إطلاق قنوات فضائية جديدة مثل محمد حسان وحازم شومان وغيرهما، حيث أُطلقت مؤخرا قناة “مودة” التي تبث برامج ذات محتوى سلفي.

يحدث ذلك على الرغم من أن التحقيقات في العديد من قضايا عنف وإرهاب ارتكبتها خلايا داعش في مصر ودول مختلفة أثبتت أن مرتكبيها تأثروا بما يروجه هؤلاء الشيوخ من أفكار وقناعات متشددة.

تعطي هذه التطورات أهمية كبيرة لتجفيف منابع التطرف، حيث تشمل جهود مكافحة الإرهاب قضايا مجتمعية، مثل التعددية الثقافية والعقائدية والتماسك الاجتماعي، وليست مقتصرة على معالجة مفاهيم الجماعات التقليدية.

وبعد ثبوت دور التطرف المجتمعي غير التنظيمي كداعم قوي للتطرف التنظيمي والعنيف وكحزام ناقل للإرهاب، بات ضروريا التنبه لخطورة التوجهات الفردية المتشددة وتفكيك ارتباطاتها مع الكيانات الإسلامية، حتى لا تتطور تبعية الفرد لقرارات سياسية وتنظيمية تحت سيادة الدين.

الكثير من المسلمين يحتاج ون إلى تحديث عقيدتهم وإعادة التفكير فيها كنظام أخلاقي متوافق مع الحياة العلمانية واستيعاب العلوم والتكنولوجيا الغربية والتخلص من التفكير الخرافي ونبذ التصورات الجامدة والمغلقة

تزداد أهمية بذل جهود مضاعفة للتواصل مع هذه النماذج الفردية لنقلها من مساحة القابلية لتبني الرؤى الموغلة في التشدد التي تتقاطع مع رؤى جماعات التكفير والتطرف العنيف واستعادتها إلى مساحات الرؤى المتسامحة والمنفتحة للدين وللحياة.

وأصبح المجتمع المصري في القلب من معركة مكافحة الإرهاب والتطرف، حيث لا يكفي أن ينحصر الفهم الصحيح للدين وإشكاليات الصراع في الإطار النخبوي المحدود.

وما يحرم تنظيمات مثل القاعدة والإخوان من مواصلة أنشطة التجنيد والترويج لمناهجهم هو توسيع مجال المعرفة والوعي ليشمل أكبر عدد من كافة قطاعات المجتمع.

وتظل جهود الإصلاح الديني غير مكتملة ما لم تحظ بسند جماهيري واسع وبدون إخراج الكتل الجماهيرية الحرجة من قوقعة الغلو ودمجها في مسيرة التنوير والتحديث، لصناعة زخم شعبي يشارك من خلاله الجمهور العريض مع النخبة المثقفة في بناء معرفي سليم للإسلام.

وبعد هزيمة تنظيمات الإسلام السياسي وجماعات السلفية الجهادية ميدانيا لا تزال معركة مكافحة الإرهاب دائرة، ولا يصح أن تُترك كتل جماهيرية مصرية في المدن والريف عُرضة للتوظيف الدعائي للجماعات المتطرفة، وينبغي الوصول إليها وإشراكها في الصراع ضد الكيانات الرجعية.

يحتاج الكثير من المسلمين إلى تحديث عقيدتهم وإعادة التفكير فيها كنظام أخلاقي متوافق مع الحياة العلمانية واستيعاب العلوم والتكنولوجيا الغربية والتخلص من التفكير الخرافي ونبذ التصورات الجامدة والمغلقة.

وتنتظر الكتل الجماهيرية الحرجة في المناطق النائية من يساعدها في العثور على التناغم بين الواقع والدين وبين الماضي والحاضر، بما يتوافق مع القرآن ومقصد الدين في حياة الإنسان، ويزيح قشرة القداسة الزائفة لديها عن كل ما يتناقض مع الفهم الصحيح للإسلام.

6