التصفيق كظاهرة استبدادية

السبت 2014/02/15

لن أدخل كثيرا في سرد تاريخ نشوء ظاهرة التصفيق، لكنني سأركز على أبعادها النفسية والاجتماعية والسياسية في يومنا الراهن. لقد كان التصفيق مترافقا مع الغناء والرقص والمسرح عبر التاريخ، ففي اليونان كان يتمّ استخدام أشخاص مقابل أجر ما، بغية التصفيق للمسرحيات المعروضة على المسرح اليوناني أمام لجان التحكيم لتقييم المسرحيات في مسابقات خاصة بها.

وكان الخلفاء والأمراء المسلمون، يحتفون بمظاهر التصفيق في مناسبات عديدة.

يقول المثل الفرنسي “يظل الطفل بريئا حتى يتعلم التصفيق” إذن التصفيق ليس حالة بريئة، وإنما يأتي في سياق موقف ما بالاستناد إلى ثقافة من قام بهذا التصفيق، في عملية تفاعلية مع الشخص أو الجماعة التي تمّ التصفيق لها، ويمكن القول بأن ثقافة التصفيق هي ثقافة شعوب قديمة، أي بالمعنى السياسي هي ثقافة تلفيق واستجداء وكسب عواطف ومجاملة فائقة، كما أنها تعبير عن حالة قهرية خنوعية رضوخية، تنمّ عن سلبية واضحة وتبعية مطلقة للزعيم الفرد المستبدّ، وهي قد سادت كثيرا في العالم العربي خلال الخمسينات والستينات والسبعينات ولا تزال مستمرة حتى يومنا الراهن.

لقد ساهم التصفيق في استدامة الحالة التخلفية بالعالم العربي واستشرى الاستبداد والقمع والسجون وتكبيل المواطن بالكثير من القيود على الحريات، كما أن التصفيق بمعناه الشامل المادي والروحي ساهم في حالة ركود اقتصادي هائل وصادم، وترافق التصفيق مع سيادة الخطابات القومية مصحوبة بشعارات رنانة طنانة كانت تلامس عواطف ورغبات المواطن العربي الذي شعر بالإخفاق والهزيمة من الغطرسة الإسرائيلية.

وكان التصفيق هو الصدى الطبيعي لأنظمة حكمت بالأيديولوجيا القومية والاشتراكية فكانت الأنظمة الشمولية تؤسس لفاشية عربية جديدة حيث وصل أحد الأحزاب الذي كان يمثلها إلى مرحلة غزو دولة عربية -احتلال العراق للكويت عام 1990- وقبلها ضرب حلبجة بالأسلحة الكيميائية (1988)، وصولا إلى استخدام الجناح اليساري من هذا الحزب في سوريا للسلاح نفسه في الغوطة بدمشق في أغسطس 2013، وتدمير سوريا أرضا وشعبا وتراثا بكافة أنواع الأسلحة الفتاكة.

إن الاستبداد ليس حالة فردية -كما قد يظن البعض- وإنما ثقافة، فالدكتاتور صناعة شعبية، لا ينتج إلا بعملية التدجين التدريجي للشعب حتى يتعوّد على الحياة ضمن هيمنته وقراراته وفرماناته، ومن الصعوبة إن لم يكن من المستحيل التمرّد عليها لوجود عناصر القمع المتعددة المادية والمعنوية: المخابرات، السجون، المحاكم، الصحافة السلطوية، والإعلام السلطوي والثقافة السلطوية.

وللأسف ما زالت هذه الثقافة منتشرة في الأوساط السياسية والثقافية رغم ثورات الربيع العربي، التي جاءت للانتفاض والثورة على ثقافة الخنوع والقهر والرضوخ وبالضدّ من ثقافة الصمت وثقافة التصفيق للأنظمة المستبدة والفاسدة، ولكن الحالة العربية الراهنة لم تشق لها طريق الثورة الثقافية بحمولاتها الفكرية التجديدية الكبرى، لمراجعة أسباب الركود العربي طيلة أكثر من نصف قرن وصولا إلى الربيع العربي الذي أخذ صفة الاجتماعية والاقتصادية والنفسية، وإلى حدّ ما السياسية، لكنه للأسف لم يتخذ بعد الصفة الفكرية والثقافية ليكون التغيير جوهريا وعميقا وجذريا.

التصفيق ظاهرة قهرية -استبدادية- بامتياز ونتاج عقول مستلبة خاضعة ومنافقة وسلبية، تعتاش على فتات المستبدين، ولا تحيا بفعل الأنا الفاعلة المنتجة.


كاتب سوري

9