التشريع لـ"حزام العفة" الشيعي

تعديل قانون الأحوال الشخصية هو امتداد لسلسلة من القوانين التي تهدف إلى ترسيخ سلطة إسلامية بغلاف طائفي شيعي.
الثلاثاء 2024/08/13
تشريعات تذكي الطائفية

منذ أن أسدل الستار على انتفاضة أكتوبر 2019، ومنذ أن ولّت الأحزاب الإسلامية وميليشياتها، هاربة باتجاه وكرها الأصلي في إيران، فزعا ورعبا، من اجتياح نيران الانتفاضة، التي لفظت مقراتها وأوكارها في مدن البصرة والناصرية والكوت والنجف وكربلاء والديوانية، تحاول تلك الأحزاب والقوى الإسلامية السعي لاسترداد زمام المبادرة وترسيخ سلطتها عبر إقامة دكتاتورية إسلامية بغلاف طائفي شيعي لتنفيذ مشروعها السياسي والاقتصادي بإلحاق العراق بالجمهورية الإسلامية ولكن بنسختها السيئة جدا.

لننظر إلى القوانين والقرارات التي أصدرتها الطبقة الحاكمة خلال العامين الماضيين، بجميع مؤسساتها القضائية والتشريعية والتنفيذية التي تتناغم وتنسجم مع تلك التوجهات السياسية التي يقودها الإطار التنسيقي الذي يمثل تلك الأحزاب والميليشيات:

1- إلقاء القبض على مروجي فيديو “المحتوى الهابط”.

2 – مسودة قانون “حرية” التعبير- قمع التعبير – في البرلمان.

3- مسودة قانون “الحريات” النقابية – منع الأشكال التنظيمية للعمال- في البرلمان.

4- تعديل البرلمان لقانون مكافحة البغاء.

5- تشريع قانون عطلة يوم الغدير – مناسبة شيعية.

6- مسودة تعديل قانون الأحوال الشخصية.

والحبل على الجرار كما يقال في المثل العراقي.

العالم يتقدم إلى الأمام، وهذه الشلة الحاكمة في العراق تحاول إعادة العراق إلى عصر ما قبل الإنسانية

وعليه عند النظر الى تعديل قانون الأحوال الشخصية، فلا يجوز عزله عن مشاريع القوانين والقرارات التي تصدرها الطبقة الحاكمة التي يمثلها اليوم الإسلام السياسي الشيعي وبتواطؤ فاضح وانتهازي من قبل القوى القومية الكردية والأطراف الطائفية الرجعية الأخرى ممن يعرّفون أنفسهم بـ”العرب السنة” في ما يسمى بالعملية السياسية، وتعبر تلك المشاريع عن المساعي الخبيثة للسلطة الحاكمة التي بدأت منذ أن شرعت حكومة السوداني بعملها، وهي التي تشكلت بدعم ومساندة تلك الأحزاب والميليشيات الإسلامية المتجمعة تحت مظلة الإطار التنسيقي.

العالم يتقدم إلى الأمام، وهذه الشلة الحاكمة في العراق تحاول إعادة العراق إلى عصر ما قبل الإنسانية. للوهلة الأولى يبدو أنَّ تعديل قانون الأحوال الشخصية هو محاولة للانتقام لإرث هذه الجماعات التي وقفت ضد سن أول قانون للأحوال الشخصية بعد إسقاط الملكية في العراق عام 1958، الذي أجاز المساواة بالإرث بين الرجل والمرأة وجواز الزواج من أي دين أو طائفة دون تغيير في المعتقد أو الانتماء الديني. إنَّ ممثل هذه الجماعات أول من وقف ضد القانون وهو محسن الحكيم المرجع الشيعي آنذاك، صاحب الفتوى الشهير “الشيوعية كفر وإلحاد”، التي أطلقها بإيعاز من الدوائر الإمبريالية العالمية وتحديدا من بريطانيا لمواجهة مسيرة العراق نحو التقدم والحرية والمساواة.

إنَّ البعد السياسي الآخر، في هذا التعديل المشين والمخجل، والذي يحاول تأسيس محاكم شيعية وسنية ومسيحية وإيزيدية وصابئية وغيرها من الطوائف، هو من أجل إدامة التقسيم السياسي على أساس المحاصصة الطائفية لإدامة السلب والنهب والسرقة التي شرع بها المعممون منذ غزو واحتلال العراق عام 2003. ويجدر بالذكر أنَّه يوم 8 أغسطس 2024، هجمت عصابة من المعممين على خيمة للنساء المعتصمات في مدينة النجف إحدى قلاع الإسلام السياسي الطائفي الشيعي اللواتي وقفن ضد تعديل قانون أحوال الشخصية، وتم إطلاق التهم والشتائم عليهن بأنهن صهيونيات. فهؤلاء لم يكتفوا بنهب أموال وثروات الجماهير منذ أكثر من عقدين من الزمن، بل نراهم يجرؤون اليوم دون أيّ حياء أو خجل بالاعتداء على النساء لأنَّ صوتهن ارتفع ضد تخرصاتهم وأعرافهم وقوانينهم.

أمّا البعد السياسي الثالث لهذا القانون، فهو محاولة لتكبيل المرأة اجتماعيا، وتحويلها إلى جارية في المطبخ لا حول لها ولا قوة، وأمومة مهددة ومسلوبة الإرادة، مع وقف التنفيذ، كل ذلك للحيلولة دون المشاركة الفاعلة في التغيير. وقد رأت هذه الجماعات كيف كان للمرأة صوتها وحراكها السياسي في تقدم الصفوف الأمامية لانتفاضة أكتوبر، وبعد ذلك احتلالها للخندق الأمامي في التظاهرات والاعتصامات للمهندسين والمعلمين والمحاضرين والعاطلين عن العمل خلال السنتين الأخيرتين.

تعديل قانون الأحوال الشخصية من الوجه الآخر، هو الاستثمار في النظام الذكوري للحصول على امتيازات للرجل

إنَّ تعديل قانون الأحوال الشخصية من الوجه الآخر، هو الاستثمار في النظام الذكوري للحصول على امتيازات للرجل، الذي تحدثنا عنه في وقت سابق في مقال مفصل بعنوان “الاستثمار في النظام الذكوري”، وإنَّ تكبيل المرأة اجتماعيا بتهديدها بسلب الحضانة منها، أو في حرمانها من حق الميراث في حال طلبها الانفصال أو الطلاق هو تخليد لعبودية المرأة بشكل قانوني مقيت.

إنَّ الإطار التنسيقي وعرّابيه المعممين يحاولون أن يبرهنوا للعالم أنَّهم أكثر تشددا من الكنيسة التي هدمتها معاول الثورة الفرنسية في القرون الوسطى، أي يريدون البرهنة على أنَّهم أكثر إخلاصا للرب، وأكثرهم أوفياء في تحقير المرأة والتقليل من شأنها، ألم تشرع الكنيسة “حزام العفة” بشكل أو بآخر ووضعه على الأجهزة التناسلية للنساء والذي كان عبارة عن سلسلة حديدية يوضع عليها القفل ومفاتيحه في جيوب الرجال عندما كانوا يجندون للانخراط في الحروب الصليبية الاستعمارية، أو عندما أصبح عرفا سائدا في المجتمع في حال سفر الرجال أو تركهم لبيوتهم لأيّ سبب كان. اليوم تتفنن الأحزاب والقوى الإسلامية الشيعية في وضع حزام عفة اجتماعي وبشكل قانوني آخر، وهو لا يقل قباحة عن حزام عفة الكنيسة في أوروبا.

وأبعد من هذا فإن هذه الجماعات التي حُضِّرِتْ أرواحها في كهوف عصر الوحشية، وفُرضت بحراب الاحتلال على المجتمع العراقي، تحاول حصر المرأة في وعاء جنسي وأن لا تتجاوز حدود ذلك الوعاء، وكأن مخيلتهم خاوية من أي شيء إلا من الجنس وبشكله المبتذل. فهم يجيزون زواج القاصرات في تعديلهم للقانون المذكور بعد فشل تثبيت قرار 137 بإلغاء قانون أحوال الشخصية من عبدالعزيز الحكيم رئيس ما يسمّى بالمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق حين ذاك واحتل مركز رئيس مجلس الحكم الذي أسسه بول بريمر الرئيس المدني للاحتلال، ثم حاولوا إعادة الكرّة مرة أخرى من قبل وزير العدل المنتمي لحزب الفضيلة الإسلامي في الولاية الثانية للمالكي بتأسيس محكمة شيعية للأحوال الشخصية، والتي محورها الأصلي تشريع زواج القاصرات وتبدأ من سن التاسعة من العمر، الذي منعته كل القوانين والشرائع الدولية والمنظمات الحقوقية ودساتير المئات من البلدان.

الإطار التنسيقي وعرّابيه المعممين يحاولون أن يبرهنوا للعالم أنَّهم أكثر تشددا من الكنيسة التي هدمتها معاول الثورة الفرنسية في القرون الوسطى

وأكثر من ذلك أنَّهم برهنوا أنَّ من وقف خلف تشريع هذا القانون للعالم بقدرتهم على ممارسة الانحطاط الأخلاقي بأبشع أشكاله، حيث يتحدثون في تعديلهم للقانون المذكور بعدم الإنفاق على الزوجة المريضة لأنَّها لا تستطيع الممارسة الجنسية مع زوجها، فأيّ مخيلة مريضة لهذه الجماعات!

ولكن بنفس القدر فإنَّ تشريع هذا القانون وبقدر ما يحط من قدر المرأة بأعلى درجاته، فإنَّه بذات الوقت يحط من قيمة الرجل الإنسان الذي تختزله هذه الجماعات – أو الكائنات أبعد من أن تكون فضائية كما تصورها صناعة هوليوود السينمائية – بأنَّ الشغل الشاغل لأيّ الرجل، هو الجنس وليس في عالمه إلا العيش بشكله الحيواني.

لقد قلنا في عدة مناسبات، ونقولها الآن، إنَّ القوانين التي تحاول هذه الجماعات تشريعها، تشعرنا بالخجل لأنَّنا ننتمي إلى جنس الرجال مثلما كان الأحرار من البيض يشعرون بالخجل لأنهم بيض البشرة بسبب السياسات العنصرية التي مورست ضد السود أو مثل مشاعر الأميركيين التقدميين بسبب جرائم طبقتهم الحاكمة وسياستها في العالم أو مثل الكنديين والأستراليين والأميركيين بسبب جرائم سلفهم تجاه السكان الأصليين.

إنَّ خلاصة ما نريد الإشارة إليه مسألتان مهمتان. الأولى، هي أنَّ تعديل هذا القانون هو امتداد لسلسلة من القرارات والقوانين التي تهدف إلى ترسيخ سلطة إسلامية دكتاتورية بغلاف طائفي شيعي، وإنَّ هذه المساعي هي من أجل حسم تعريف هوية الدولة والتي هي إلى حد الآن ذات شكل هلامي، لا هي شيعية بهوية جعفرية نجفية – مدينة النجف – ولا هي قميّة – مدينة قم- بختم ولاية الفقيه، ولا هي سنية مثل إمارة داعش أو طالبان، ولا هي قومية وعروبية مطعمة بالإسلام مثلما كان في عهد النظام البعثي. ولا يمكن حسم هوية الدولة دون حسم الصراع السياسي على السلطة.

وتسعى هذه الجماعات التي يمثلها الإطار التنسيقي قدر الإمكان لتصفية المعارضين والمخالفين والقضاء على التشرذم السياسي للطبقة البرجوازية بجميع تياراتها وممثليها من أجل تحويل العراق إلى مزرعة للعبيد وعمالة رخيصة بغية جذب الاستثمارات الأجنبية، وهذا ما يهم الإدارة الأميركية والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة بالدرجة الأولى.

والمسألة الثانية هي أن المحاولة تكمن في السعي لوضع الكوابح أمام تطور حركة لكنس جماعات الإسلام السياسي من حياة المجتمع، التي لاحت تباشيرها بالأفق منذ انتفاضة أكتوبر، وهذه المحاولة تشكل تهديدا خطيرا ليس على المدنية والتحضر في المجتمع العراقي فحسب، بل على مجمل الحريات الإنسانية. لذا فإنَّنا نرى أنَّ نضال النساء والرجال الأحرار كتفا إلى كتف هو ليس لصالح تحقيق المساواة بين المرأة والرجل فحسب، بل أيضا من أجل تحرر المجتمع العراقي برمته والسعي لبناء مجتمع المساواة والحرية والرفاه، وهذا ما يجب أن يعيه الرجال الأحرار قبل النساء عما تخفيه الأجندة الجهنمية للإسلام السياسي الشيعي في سعيها لتشريع قانون تعديل الأحوال الشخصية.

اقرأ أيضاً:

7