التحف صناعة أقدار ومهارات وسرديات كبرى

قلة تعرف أن بابلو بيكاسو اختار التحول إلى مشغله بشارع “غران- أوغسطين” بباريس بوحي من رواية “التحفة المغمورة” لبلزاك، التي فتنته، وهو الشارع عينه الذي ضم مشغل “المعلم فرينهوفر” الشخصية الملتبسة صاحبة التحفة الممتنعة في الرواية الأخاذة، في هذا الفضاء تحديدا أنجز بيكاسو لوحته العملاقة “لاغيرنيكا”. والحال أنه لم يكن في البداية إلا مكلفا بوضع رسومات توضيحية لعمل بلزاك القصير والمدوخ، الذي تنطبق عليه، إلى حد كبير، الصفة الواردة في العنوان، “التحفة المغمورة”.
لكن ما الذي يجعل من عمل فني ما تحفة؟ وجوده في المتحف أو الكاتيدرائية أو القصر الملكي أو اسم الرسام ومسار العمل الطويل، وامتناع محاكاته؟ وبتعبير أكثر تحديدا، ما الذي يجعل “الأرجوحة” لرونوار، أو”راقصة الباليه” لإدغار ديغاس، أو “زهرة الخشخاش” لفان غوخ، تحفا دون مئات اللوحات الأخرى للفنانين أنفسهم؟ يمكن أن نتحدث عن الكمال، والتفرد، وأن نستدعي سلسلة من المفردات المتصلة بالقدرة، والتقنية، والتحكم، المشارفة على الإعجاز… عمل يقاس بحجم الخيال والصناعة والحذق، كما يقاس بالتماع الفكرة، التي تحتفظ بطزاجتها في المرئي فقط، بنحو لا يبدو متاحا في المرجع.
الفناء في البحث عن تلك التحفة الغائبة هو ما يدفع في محاولات مجنونة، إلى الانتحار أو الإدمان أو إحراق المشغل والجسد، يمكن أن تنتهي كل من اللوحة أو المنحوتة أو لا تنتهي، تنبت شيئا مغايرا لما أراده الرسام، ولا تشبه ما ينطوي عليه الذهن في الوهلة الأولى؛ إنها بالذات ما تشي به تلك الخاطرة التي طرأت على بال أوسكار كوكوتشا، حين نظر إلى لوحة رامبرانت الأخيرة عن نفسه، قائلا “فكرت أن أكون قادرا على النظر في مرآة إلى نفس تتلاشى. لا ترى شيئا وترى نفسها”.
قبل سنوات قليلة صدر عن دار غاليمار بباريس كتاب جماعي بعنوان “ماهية التحفة” وقد ضم سلسلة المحاضرات التي نظمتها الدائرة الثقافية بمتحف اللوفر سنة 1998، وشارك فيها عدد من نقاد ومؤرخي الفن، من مثل مارتينا هانسمان ووارتور ضونتو، وجون غالارد، وآخرين، وقد سعى الكتاب إلى إعادة ربط المفهوم الغامض للوحات التي وسمت بالتحف، في بدايات خروج الفن من الكاتيدرائيات إلى المجتمع، وإلى المتاحف والأروقة، مع الأصول الوظيفية للنعت، التي اعتبرت التحفة، تتويجا لمسار مهني، شيئا شبيها بالأطروحة في المسار الفكري، حيث ينشأ الأسلوب، ويثبت الإسهام الفني، بنحو قادر على تخطي نطاق الاعتيادية إلى الاختراق، قرين معنى التحقق الحسي والذهني؛ وهو ما يلهم الروائيين دوما.
التحفة شيء شبيه بالأطروحة في المسار الفكري، قادرة على تخطي نطاق الاعتيادية إلى الاختراق والتحقق الحسي
الوصول أو عدمه يمكن أن يكون واضحا بالنظر إلى الفنان ذاته، لكنه يبقى معرضا لحكم مغاير لحظة العرض في العلن، إنه تحديدا ما جعل التحفة الفنية مفهوما مصنوعا بأقدار ومصائر، بجمهور، وفضاءات وأزمنة، وبسرديات كبرى، وهي السمات التي تتيح إنتاج النظائر الروائية للتحف الفنية، بالقدر ذاته من السحر والإدهاش. ولاسيما في حقب ثقافية اختلط فيها المجتمع الفني والنزوعات والشطحات الأسلوبية بأسئلة التخييل الروائي، أتحدث هنا عن رواية “التحفة المغمورة” لبلزاك، التي انتظمت ضمن سلسلة روايات أرقها العذاب الجسدي والروحي المفضي لإنجاز أعمال خارقة.
ولم تكن ترددات بلزاك من دون معنى عندما بدل عنوان روايته القصيرة “التحفة المغمورة”، عدة مرات فمن “المعلم فرانهوفر” إلى “كاترين ليسكو”، قبل أن يستقر على ذلك العنوان المسكوب في أعتى الألغاز الفنية، ليدرج العمل بعد طبعات مختلفة ضمن عمله الجامع “الكوميديا الإنسانية”.
يدور عمل بلزاك أساسا على نقطة تحول جذرية في بورتريه “مارية المصرية” التي انتهى منها الرسام بوربيس، حين تدخل “المعلم فرينهوفر” بإضافات حولت اللوحة المكتملة إلى شيء مختلف، ينطق بشغف سري، كانت اللوحة وفية وجذابة قبل أن تضحى محيرة وخلّابة، هذا التدخل يمكن أن يكون جوابا عن ماهية الانتقال من حساسية التطابق إلى الصعق، ويمكن أن يكون إبرازا لقساوة الاكتمال، وبرهنة على أن الاستئناف قدر رؤية الغريب، بيد أن ما منح الرواية قوتها وعمقها الموجع هو العجز الكامن داخل شخصية الفنان “المعلم فرينهوفر”، الذي امتنع عليه إتقان اللمسات الأخيرة في لوحته المنتظرة لعشر سنوات، ففي النهاية وبعد اشتغال طويل ارتأى بإلهام من نموذج اقترحه عليه الرسام بوربيس أن يعتكف على العمل وأن يخرجه إلى العلن، بيد أن الصورة المعروضة، بخلاف المؤمل، جاءت شبيهة باستعارة مخيبة، قدم فتاة غارقة في فوضى لونية مربكة.
يقدم بلزاك في “التحفة المغمورة” وعيا شقيا بجوهر صناعة التحفة، التي لا تتجلى بوصفها شيئا ناجزا في غياب انتقال ذهني وزمني وحسي، من الركون إلى الاكتمال الوهمي في الأفق الخارق، بإرباك يقين البراعة، وإسكانها طبقية ما، قد تدمر منطقها الأصلي؛ لحظة قد لا تستجيب لانتظارات الفنان إلا نادرا، وفي استرسالات قد تكون نابعة من رؤية الغير، إشراقة قد لا ترد إلا عرضا، ودونما تخطيط لكنها تكون حاسمة، مثلما أن الإصرار على تكرارها لا يفضي إلى شيء سوى الدمار، ذلك ما تنبئنا به سردية بلزاك العميقة، فحين استعصت الإشراقة على المعلم فرينهوفر، هلك بعد أن أشعل النار في مشغله الأثير.