التجربة السعودية بين مصر وسوريا

التغيير في لبنان لعب دورا في حسابات السعودية تجاه سوريا الجديدة والتعامل بإيجابية مع قيادة هيئة تحرير الشام إذ وجدت الرياض فرصة لاستعادة نفوذها في بيروت مع ضعف قدرات حزب الله.
الجمعة 2025/01/17
حسن النوايا وحده لا يكفي

لعب الدعم السياسي والمادي الذي قدمته السعودية لمصر بعد سقوط حكم جماعة الإخوان منذ أحد عشر عاما دورا مهما في عدم وقوع مؤسسات الدولة المصرية رهينة لأعمال عنف مارستها تنظيمات متطرفة، ونجت البلاد في حينه من أحد أبرز المحكات الوعرة في العصر الحديث، واستهدفت تدمير مؤسسة الجيش العريقة في مصر، ومنح فرصة لفصائل مسلحة إرهابية للتحكم في مقاليده.

ولا أحد ينكر جدوى الدعم الذي قدمته المملكة العربية السعودية، ومعها دولة الإمارات، في وقوف مصر على قدميها سريعا. وتظل المواقف القوية للملك عبدالله بن عبدالعزيز المؤيدة للقاهرة، ماديا ومعنويا، شاهدة على تقويض سعي الإخوان لخلق حالة إقليمية ودولية مؤيدة للجماعة، فقد أسهم الملك الراحل بدور معتبر في تجاوز النظام المصري واحدة من أخطر التحديات التي واجهها، ساعدت في عدم الاستسلام للعنف الذي مارسته جماعات متشددة وجيوب إخوانية عديدة، وإنقاذ القاهرة من أجندة خفية حملها الحلف الإخواني – القطري – التركي.

من دون الدعم السعودي (والإماراتي) كان كل شيء مهددا في مصر، لكن مع سوريا أصبح الوضع مختلفا، فالرياض أظهرت قدرا كبيرا من الانفتاح على الإدارة الجديدة التي تقودها هيئة تحرير الشام، والدوحة وأنقرة تعلمتا وأتقنتا الدرس، فلماذا تبدي السعودية تجاوبا لافتا وهي تعلم طبيعة المكونات الإسلامية في دمشق، وأن قطر وتركيا تعملان على فرض أجندتهما هناك؟ ما يعني أن حُسن النوايا الذي تبديه الرياض ربما لا يمكّنها من القيام بدور حيوي ومؤثر على الساحة السورية.

◄ مجموعة من العوامل تضافرت لتجعل موقف الرياض من سوريا مختلفا عن مصر، بينها رؤية النظام السعودي نفسه لفكرة الدور الإقليمي ومقوماته وشكل الأوراق التي تعززه

يأتي التباين في الموقف السعودي من حكم الإخوان في القاهرة، وسلطة هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقا) في دمشق، من حداثة التجربة التي نفذتها الأولى، ورؤيتها لتعميم الأطر الإسلامية من أجل تنفيذ أهدافها، وعدم استبعاد العنف كأداة للسيطرة، والإعلان صراحة عن خططها لتدمير المؤسسات النظامية في الدولة، والتفاخر بأسلمة المجتمع على الطريقة الإخوانية، ناهيك عن الصدام مع غالبية أطياف المجتمع المصري وإقصاء كل من يظهر نوعا من الخلاف مع الجماعة.

بينما الحالة السورية تسعى إلى تجنب الأخطاء السابقة، وقيام رعاة هيئة تحرير الشام بمحاولة ترتيب المشهد بما يوحي بقطع الصلة مع الماضي، والانفتاح على العالم بتحضر، ومنح السعودية خصوصية لمكانتها الدينية، وتكفي هذه لتشعر الرياض بقلق حيال الإدارة الجديدة في دمشق، لكنها تراهن على تغييرها من الداخل وقدرتها على امتصاص الخلاف، وإجراء تحولات من خلال منهج الاحتواء السياسي، كما أن دولا عدة تتعاطى مع هيئة تحرير الشام كأنها ولدت بعد سقوط نظام بشار الأسد.

ترى السعودية أن تكرار تجربتها مع مصر في سوريا يدخلها في صدام مع حكومة تبدو مرنة سياسيا ومقتنعة أن مرحلة الثورة مختلفة عن الدولة، ولا توجد جهة أو مؤسسة فاعلة يمكن التعويل عليها للتصدي للأمر الواقع الإسلامي في سوريا، والذي يحظى بقبول من دول كثيرة على أمل إحداث تحولات فيه، وكانت الاستدارة المبكرة والتعاون مع قيادة هيئة تحرير الشام طريقا مناسبا للمملكة في هذه المرحلة، والتريث قليلا في عملية تقديم الدعم المادي والسياسي لها أو غيرها من القوى المتحفظة عليها.

لعب التغيير الكبير في لبنان دورا في حسابات السعودية تجاه سوريا الجديدة، والتعامل بإيجابية ظاهرة مع قيادة هيئة تحرير الشام، إذ وجدت الرياض فرصة لاستعادة نفوذها في بيروت مع ضعف قدرات حزب الله، وتقليص دور إيران في لبنان وسوريا، وتعتقد الرياض أن الاحتفاظ بمسافة بعيدا عن الإدارة الجديدة في دمشق سوف يؤثر بالتبعية على حجم نفوذها في بيروت.

كما أن الخارطة لم تتشكل صورتها النهائية في البلدين، لكن ثمة ترتيبات في الكواليس يرى أصحابها أن تداعيات حرب إسرائيل على لبنان ألقت بثقلها في سوريا، ونجاح الفصائل المسلحة في إسقاط نظام الأسد عجّل باختيار رئيس لبناني جديد بعد نحو عامين من الانسداد والجمود السياسي، وفي ظل هذه المعادلة قررت السعودية تغيير حساباتها مع مؤشرات النظام الإسلامي في دمشق، والتخلي عن إعادة إنتاج تجربتها مع مصرفي سوريا، والميل للتعامل مع ما يجري هناك وفقا لمعطيات جديدة.

لا أحد يعلم بدقة طبيعة التوجهات السعودية، وهي تميل للغموض أحيانا، وفتح أكثر من قناة، خاصة عندما يكون المشهد غائما وتتعدد القوى المشاركة فيه، والمؤكد أن الرياض تعلم ما تحيكه قطر وتركيا معا في سوريا، ووجدت أن تجربة الخلاف معهما في فترة سابقة (المقاطعة العربية) لم تحقق ما أرادته، وعلى العكس صمدت الدوحة ونجت من براثن تضييق قامت به الرياض، انتهى باتفاق العُلا وتطبيع العلاقات.

◄ الرياض أظهرت قدرا كبيرا من الانفتاح على الإدارة الجديدة التي تقودها هيئة تحرير الشام، والدوحة وأنقرة تعلمتا وأتقنتا الدرس

من بين التقديرات التي دفعت السعودية إلى شيء من الليونة مع هيئة تحرير الشام أن أيّ معارضة لها أو صدام معها لن يفضي إلى تغيير منهجها، وربما يؤدي إلى زيادة في هيمنة قطر وتركيا على النظام السوري الذي سوف تتشكل معالمه لاحقا، ويصبح خيار العزوف في غير مصالحها، لأن تجربة الدعم الوافر لمصر يصعب تكرارها في سوريا حاليا، فالمشهديات السياسية مختلفة في البلدين، وما تبديه قيادة هيئة تحرير الشام من مرونة يمكن البناء عليه مع تطلعها للحصول على دعم مادي سخي من السعودية، وتثمين تجربتها التنموية والاستفادة منها، وهو خطاب، مهما كانت ملامح التقية فيه، يؤكد حاجة دمشق للرياض، ويلمّح من طرف بعيد أن أحمد الشرع لا يريد أن يكون أسيرا تماما لقطر وتركيا، والجهة التي تضفي عليه مشروعية كبيرة حقيقية ومصداقية هي السعودية، التي يعلم أن الخصومة معها مكلفة.

تضافرت مجموعة من العوامل لتجعل موقف الرياض من سوريا مختلفا عن مصر، بينها رؤية النظام السعودي نفسه لفكرة الدور الإقليمي ومقوماته وشكل الأوراق التي تعززه، وقد تلعب الترتيبات المنتظرة في سوريا دورا مهما في تحديد اللاعبين الأكثر أهمية الفترة المقبلة، بعد أن فقدت الحروب بالوكالة جزءا كبيرا من بريقها في سوريا، وجاء وقت العمل السياسي المحكم، والرؤية الإستراتيجية الدقيقة التي تستطيع التكيف مع تغيرات هيكلية مقبلة في المنطقة، يرعاها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وتضع ملامح لتفاعلات إقليمية مغايرة لما كان سائدا.

دفعت هذه المسألة الرياض إلى الاشتباك السياسي مع سوريا، على خلاف مصر التي تتعامل بحذر وتنتظر الحصول على تطمينات وافية تجعلها تبدّل موقفها ولن تمانع الإدارة الجديدة في دمشق تقديمها، لأنها تريد كسب ثقة القوى المهمة في المنطقة، وتبديد مخاوف هذه القوى، وهو ما يبدو أن الرياض اطمأنت إليه، وجعل محددات تجربتها مع هيئة تحرير الشام بعيدة عن تلك التي اتبعتها مع جماعة الإخوان.

 

اقرأ أيضا:

         • التجربة في إدلب والتطبيق في سوريا

         • التقارب بين سوريا ولبنان ضرورة إقليمية

8