التأميم من الدول الدكتاتورية إلى الديمقراطية

التعميم في العقوبات ينطوي على مخاطر بالغة تضرب جوانب مهمة في اقتصاديات دول غربية تعتمد بشكل كبير على ثقة رأس المال في هذه البيئة وقدرة أصحاب الأموال على تنمية ثرواتهم.
الاثنين 2022/03/14
اختبار حقيقي لاقتصاد الغرب

يفضل أصحاب رؤوس الأموال من الدول والأفراد الاستثمار في الأنظمة المستقرة سياسيا والراسخة في مجال الديمقراطية عن غيرها من الدكتاتورية التي تتسم بالفاشية والتذبذب، حيث توفر الأولى قوانين تحمي ثرواتهم بينما يمكن أن يستيقظ الحاكم في الثانية فيقرر تأميم ممتلكات أغنياء أو يحدث انقلاب عليه فتتغير قوانين البلاد.

ما حدث من جانب الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية حيال طبقة الأوليغارشية الروسية يشير إلى ملامح انقلاب في معادلة التأميم وينقلها إلى دول بدت بعيدة عنها بحكم القانون والاستقرار السياسي والميراث الحضاري، أو يجعلها غير آمنة اقتصاديا بمعنى أدق، وهو ما يثير حيرة البعض من أصحاب رؤوس الأموال ويوقعهم بين ناري دكتاتورية غاشمة وديمقراطية تتناقض مع قواعدها الرئيسية.

يسأل العديد من المستثمرين عن النظام السياسي والهوية التي تتحكم فيه ومستوى الحريات في الدولة التي يستهدفونها ومدى سيادة القانون قبل القيام بضخ أموالهم في مجالات مختلفة وإنشاء مشروعات عملاقة متباينة، ومع العقوبات الاقتصادية الصارمة التي فرضتها بعض الدول الغربية على روسيا وأسرفت فيها سادت مخاوف بشأن إمكانية توقف السباق نحو الاستثمار فيها مع انتشار حالة من اللايقين فيها.

إذا كان الشخص يحاسب بجريرة حكامه فالأفضل له إعادة النظر في التسليم بفكرة الأمان الاقتصادي في البيئة الغربية، فقد أثبتت الإجراءات التي اتخذتها الولايات المتحدة وبريطانيا تحديدا أنه لا أحد يضمن الحفاظ على ثروته وأيادي التأميم التي سادت لفترة طويلة في دول العالم الثالث ربما تصبح قريبة من دول العالم المتقدم، فإشهار العقوبات في وجه العشرات من المليونيرات الروس يلقي بظلاله على غيرهم.

لا تسقط هذه الأحداث بالتقادم أو يتم تجاهلها بعد انقضاء العاصفة، حيث تظل عالقة في أذهان أصحابها والمتابعين لتطوراتها، وتؤثر على سمعة النظام الحاكم مهما حاول اتخاذ خطوات يدّعي أنها تدخل في باب الإصلاح، فالعقوبات التي تستهدف أموال الأفراد تصطحب معها تبعات اقتصادية بعيدة المدى.

أرادت واشنطن ولندن معاقبة موسكو على تدخلها العسكري في أوكرانيا وتأديبها اقتصاديا، غير أن رذاذ أسلحتها سوف ينعكس عليهما لأن القضية تتجاوز الطريقة التقليدية في فرض العقوبات التي تحوّلت إلى منهج غربي واسع الانتشار في العقود الأخيرة، كما حدث مع العراق وسوريا وليبيا وإيران.

يجري التوسع فيها لتشمل أفرادا، وربما يكون هؤلاء على صلة بالنظام الحاكم في روسيا، إلا أن المعاني والمضامين النهائية تثير شكوكا في نفوس زعماء وحكومات ورجال أعمال لديهم ثروات طائلة في الولايات المتحدة وبريطانيا وضعت فيهما باعتبارهما من الدول ذات الثقة الاقتصادية المرتفعة.

يقدم النموذج الروسي درسا قاسيا لكل من فكّروا في زيادة الضخ الاقتصادي في السوقين الأميركية والبريطانية مثلا، ويفرض على من يحتفظون بأموالهم في بنوكهما أو يستثمرون على أراضيهما إعادة النظر في مسلّمة أنهما من أكثر الدول أمانا

انساقت الولايات المتحدة وراء العقوبات وجربت أنماطا عددية منها وحولتها إلى سيف تضعه على رقبة بعض الدول التي تتنافر معها في التوجهات وشملت العقوبات شخصيات نافذة سياسيا وأمنيا وتستخدمها بغرض دفع المسؤولين للاستجابة إلى مطالبها، وتلوّح بهذا السيف أو تطبقه عندما تجد أن هناك ضرورة لذلك.

في كل الأحوال لم تسلّطه على رقاب الكثير من رجال الأعمال والمستثمرين على أراضيها ووفرت ضمانات متعددة لعدم المساس بأموالهم، وصلت سريتها أحيانا إلى صعوبة الكشف عن الأرقام والهويات ومصادرها وتتبع منابعها، وكان شبح التأميم الذي يلوح دوما في الدول الشمولية لا يخطر على بال أحد في الرأسمالية.

وسّعت الحرب في أوكرانيا استخدامات سلاح العقوبات الاقتصادية، ففي ظل محدودية توظيف الوسائل العسكرية المباشرة والموجعة للقيادة الروسية وما تنطوي عليه من تداعيات لجأ المعسكر الغربي إلى تضييق الخناق على المتعاونين مع موسكو، فالغرض أن يشعر هؤلاء بحجم الخسائر التي يمكن أن يتكبّدوها بسبب مواقفهم السياسية.

تتجاوز أهمية هذا الدرس ما يجري مع روسيا، حيث توجد أنظمة أخرى تستخدم بعض الأفراد كمستثمرين في دول أخرى بهدف التحكم في مفاصل الاقتصاد كأحد الأدوات التي يمكن اللجوء إليها في وقت معين لتحقيق أهداف سياسية خفية، وهم على ثقة أنهم في منأى عن التأميم لأن الأعمال التي يقومون بها تتسق مع القوانين المحلية.

يؤدي التوسع في أشكال العقوبات وبلوغها مستوى المصادرة إلى خسارة الدول التي فرضتها، فسياسيا تصبح آلية الحكم المعمول بها غير مؤتمنة على أموال المعارضين لها ولن تكون بعيدة عن الأنظمة الضالعة في الشمولية، واقتصاديا يشعر أصحاب رؤوس الأموال بعدم الثقة في الحفاظ عليها واقترابها من مرحلة العبث بها.

جرّبت الولايات المتحدة هذه الطريقة لإيذاء النظام الروسي وقد لا تستطيع إخضاعه لإرادتها تماما وأوصلت رسالة إلى كل من تسوّل له نفسه التعاون مع الأنظمة الشبيهة، وقدمت إشارة سلبية إلى من يريدون ضخ أموال فيها بحجة الاستثمار أو الادخار، فالنتيجة التي تتمخض عنها هذه الوسيلة قد تصبح مكلفة وتعيد الاعتبار في النهاية للأنظمة الدكتاتورية التي يمكن التفاهم معها بسهولة أكبر من الديمقراطية.

تحمل السردية الغربية في هذا المجال مفارقة تقلل من الأهمية التي تحملها الأنظمة ذات الميول الرأسمالية فعمادها الاقتصاد لم يعد آمنا، والتبشير بالتشجيع على استقبال الأموال من الأمور التي تفقد تدريجيا بديهتها السياسية، فقد حوت العقوبات المفروضة على روسيا جملة من العلامات التي تنعكس تداعياتها القاتمة على بعض الدول الغربية بعد التيقن من الفجوة الكامنة بين المبادئ والشعارات.

يمثل بلوغ العقوبات هذا المستوى الخطر جرس إنذار للدول الغربية التي تتشدق بأن ديمقراطيتها خير ضامن لأموال المستثمرين وتعيد الاعتبار لأنظمة دكتاتورية أفرطت في التأميم والمصادرة لدواع سياسية واقتصادية، حقيقية أو زائفة، فسوف يذهب النظام الروسي إن عاجلا أو آجلا وتبقى رواسب تعميم العقوبات على رجاله.

ينطوي التعميم في العقوبات على مخاطر بالغة يمكن أن تضرب جوانب مهمة في اقتصاديات بعض الدول الغربية التي تعتمد بشكل كبير على ثقة رأس المال في هذه البيئة وقدرة أصحاب الأموال على تنمية ثرواتهم بأريحية اقتصادية.

يقدم النموذج الروسي درسا قاسيا لكل من فكّروا في زيادة الضخ الاقتصادي في السوقين الأميركية والبريطانية مثلا، ويفرض على من يحتفظون بأموالهم في بنوكهما أو يستثمرون على أراضيهما إعادة النظر في مسلّمة أنهما من أكثر الدول أمانا، طالما لا تترددان في تبني خطوات لا تقل خطورة عن تلك التي تتخذها أنظمة دكتاتورية.

9