البنطال يطيح بلباس القمباز التراثي في فلسطين

رام الله ـ ذاعت قصة طريفة نهاية سبعينات القرن الماضي لرجل مسن في إحدى قرى رام الله كان يرفض ارتداء اللباس التقليدي الفلسطيني “القمباز”، فاجتمع حينها كبار القرية واتفقوا على جمع مبلغ من المال لتفصيل القمباز لهذا المسن.
أوكلت المهمة إلى مختار القرية الذي توجه إلى محل خيّاط في السوق القديم بمدينة رام الله، والذي كان صاحبه يتميز بحياكة القمباز، الذي يأتي بقماشه بواسطة المستوردين من سوريا.
خلال يومين كان القمباز جاهزا، حينها توجه وجهاء القرية إلى المسن الذي تفاجأ بزيارتهم، ليضطر لقبول هديتهم خجلا، والذي سيصبح يرتديه رغما عنه طوال الوقت.
انقلب المشهد اليوم، ولم يعد عدم ارتداء هذا اللباس يثير غضب كبار السن أو متوسطي العُمر، لكن في إحدى الزوايا القديمة بمنطقة رام الله التحتا بقي هناك محل خياطة “القديسي” الذي يحافظ على صناعة القمباز.
يقول محمد إبراهيم قطوسة صاحب محل الخياطة القائم منذ العام 1976 والذي يتميز بصناعة عدة أنواع من الألبسة التقليدية الفلسطينية “أصبح الطلب عليه نادرا جدا، فأحيانا في الأعراس وبعض المناسبات”.
ويضيف قطوسة لوكالة الأنباء الفلسطينية وفا، أن القمباز يطلق عليه في بعض المناطق اسم “الكِبِر” أو “الدماية”، والذي يعرّفه بأنه رداء طويل مشقوق من الأمام، ضيق من أعلاه يتسع قليلا من أسفل، يُرَدّ أحد جانبيه على الآخر وجانباه مشقوقان قليلا.
ويتمتع القمباز بخاصية جيّدة نادرا ما تجدها في الملابس الأخرى وهي ميزة الراحة الجسدية والقدرة على التحرك في أي وقت وكيفما كان، وذلك لأنه واسع الحوض على عكس الملابس الأخرى التي ظهرت والتي في معظمها ضيقة في منطقة الحوض ولا تساعد مرتديها على التنقل والحركة بالشكل المطلوب.
وقمباز الصيف من كتان وألوانه مختلفة عنه في الشتاء، أما قمباز الشتاء فمن جوخ ويلبس تحته قميص أبيض من قطن يسمى “المنتيان”.
في الأصل، كان القمباز شائعا في بلاد الشامِ جميعها، كان موحدا لأهلها، رغمَ أنّه اختلف بحسب الطبقة الاجتماعية والاقتصادية التي كان ينتمي لها الفرد، فالفقراء ارتدوا قمباز الديما أو القباقيبو، أما الأغنياء قليلا فارتدوا قمباز الحرير البناتيّ، بينما ارتدى أبناء الطبقات العليا والأثرياء قمباز الغباني.
ويرى الخياط سامي صوافطة أن لباس القمباز هو شيء جميل لاسيما أنه من الذاكرة التي تربطنا بالماضي، لكن في هذه الأيام لم يعد يرتديه سوى كبار السن و”ذلك نظرا لأنواع الألبسة المختلفة التي غزت الأسواق الفلسطينية وجعلتنا نترك صناعتنا وإرثنا ونتوجه إليها”، مؤكدا أن القمباز يعني له الإرث القديم الذي دثره الزمن.
وكان والد محمد قطوسة الذي توفي عام 2014، ينهمك طيلة الشهر في الطلب الكبير على حياكة القمباز في سنوات السبعينات والثمانينات، وكانت موضة إصلاح الملابس نادرة والتي تعمل بها الآن معظم محلات الخياطة، حيث كان الدارج حينها التفصيل أي تفصيل الملابس.
ويقول قطوسة “الخياطة لم تعد حرفة لها مكانتها، الخياطون كُثر، والمحال التجارية أصبحت تعج بالملابس المستوردة الجاهزة، ولم تعد خامة القمباز وقماشه من المواد المتوفرة، الموجود هو المقلد، الذي يستهلك ويبلى خلال مدة قصيرة“.
ويرى قطوسة أن الصناعة التهمت فن الخياطة، والإبرة أصبحت تابعة للآلة بعد أن كانت لقرون آلة بحد ذاتها، واليوم الخياطون هم من يستطيعون تشغيل ماكينات “القص واللصق”، وهم من يظنون أنهم يتقنون تقصير البناطيل وحياكة أواخرها.
ولا يجد قطوسة وجها للمقارنة بين القمباز الذي حاكته يداه منذ عقود وتلك الملابس التي تغرق السوق، قائلا “صنع اليد يفوق موضة هذه الأيام جمالا، ويتفوق عليها ذوقا وفنا ونظافة ومخافة لله”.
ويحرص قطوسة على الاستمرار في صناعة القمباز كونه يمثل التراث الفلسطيني ويعبر فيه عن أصله وتاريخه وجذوره في هذه الأرض.
ووفق قطوسة، أغلب زبائن هذه الأيام الذين يترددون على الخياط لطلب هذا اللباس هم من المغتربين كبار السن الذين يأتون للبلاد في فصل الصيف، ويعتقدون أن ارتداء القمباز واجب عليهم في المناسبات.
وكان القمباز هو اللباس العربي المسيطر، ومن ارتدى غيره من الملبس أشاروا إليه بالبنان كوصمةِ عار، وقبل حوالي ثلاثين عاما، بقي القمباز صامدا في الداخل الفلسطيني، وخاصة لدى العائلات ذات المكانة الاجتماعية المرموقة، ورؤساء المجالس المحلية والوجهاء، إلى حين أن تغيّر نمط الحياة وأطاح البنطال بالقمباز.
ويفتقد محمد في هذه الأيام خامة القماش السورية الأصلية، والتي لم تعد تصل إلى فلسطين منذ عدة سنوات، بسبب الأوضاع هناك، حيث تحتم عليه استبداله بالقماش المستورد من كوريا والصين وحتى اليابان.
وفي سبعينات القرن الماضي وحتى نهاية الثمانينات لم تهدأ آلة الخياطة يوما عن حياكة “القمباز”، واليوم آخر “قمباز” صنعه كان بداية هذا العام، ورغم ذلك مازال معلقا في محله ولم يطلبه أحد.