البناء في إطار التقسيم
باتت الحياة في هذه المنطقة الملتهبة من العالم أسيرة استحقاقات داهمة وأخرى منتظرة يعيش السوريون على وقع حصولها، يحتسبون تداعياتها على جوانب متعددة من حاضرهم ومستقبلهم.
شكّلت السنوات الخمس الداميات مخاضا سياسيا واقتصاديا وقسّمت المجتمع السوري عموديا، وأنتجت الكثير من المفارقات أشدها إيقاعا تلك التي تتعلق بوحدة السوريين الوطنية ووحدة بلادهم، فالحديث عن إمكانية التقسيم أو عدمه كان راسخا في معظم الطروحات والخرائط والتقارير التي تتناول الوضع السوري، فالكيان السوري الذي طالما رفضه وهجاه السوريون كناتج استعماري لـ”سايكس بيكو” أنتج شخصية سورية تضيع بانتمائها بين الأبعاد فوق الوطنية من قومية ودينية ترفض حالة الحجر الضيق داخل حدود مصطنعة، أو دون الوطنية ينتجها القاع المجتمعي من عشائرية ومذهبية تقاسمت الهوية والوجود السوري، ولم تبقِ للانتماء الوطني الخالص إلا هامشا ضيقا زادته تشويها إفرازات النظام السياسي العابر الذي ربط مصلحته العليا بمصلحة الوطن، حتى بات زوال أو بقاء الوطن مرتبطا بالنظام في أذهان البعض، وإن هذا يتطلب إعادة التأهيل لما يمكن تسميته قيمة الوطن التي لا يمكنها أن ترتبط إلا بالمواطن وليس بالحاكم، فهذا المصطلح سواء كان ناتجا عن إرث تاريخي، أو مصطنع، هو المجال الحياتي الذي يعيش فيه السوريّ ويتفاعل من خلاله مع الآخرين ومن العبث التخلي عنه أو القبول بتفتيته.
يذهب الفكر السائد المعالج لظاهرة التعدديات العرقية والدينية والطوائف والمذاهب، إلى البحث في طرق الحكم ومقاربة الواقع السياسي والديموغرافي الذي تم تشكيله في السنوات الماضية عبر التجريب والاختبار في اقتراحات أفكار أو أشباه حلول وتأهيلها، لتكون حلا يدل على مقدار تعثر الملف السوري خارجيا وداخليا، فالتقسيم الذي ثبت عدم مناسبته لبعض القوى جرى تخفيف إيقاعه في الحفاظ على الحدود الخارجية للدولة السورية، مع إتاحة المجال لإيجاد تقسيمات داخلية ضمن إحدى صيغ اللامركزية السياسية مثل الحكم الذاتي والفدرالية أو الكونفدرالية، والتي بدت مناسبة لبعض البؤر والتكتلات الطائفية والعرقية والقوى السياسية التي سارعت في تسليط الضوء على الصيغ الفدرالية الناجحة في أميركا وألمانيا وسويسرا، فالمشكلة السورية ليست بالاتحاد الفدرالي كنظام حكم، إنما لا يجوز إهمال معطيات الواقع السوري الذي لا يشبه أيا من هذه الأمثلة، ولا يمكن حصر الأزمة السورية بالمكونات الجماهيرية المتنوعة فقط، وإهمال دور النظام في ما وصلت له سوريا، أو ما تم إشعاله من الفتن الطائفية ومشاعر الحقد والغضب، وتجاهل قوة الجماعات الجهادية وسيادتها في مناطقها وأثرها على بقية المكونات وحالة السلم الأهلي، وعليه فإن طرح نظام فدرالي ضمن هذا المناخ الدموي لن يقود إلا نحو خلق كيانات متنازعة يتم فيها تثبيت ما جرى العمل عليه في خطوط التقسيم بين منطقة تغلب فيها القومية الكردية، ومنطقة للنفوذ المذهبي السني، ومنطقة تحت سيطرة النظام، وهو ما أنضجته جبهات القتال المتجددة والتي لن تقدم إلا دولة وليدة هشّة وغير قابلة للبقاء.
عقارب الزمن لن تعود إلى الخلف، والسوريون يعلمون أنهم أمام استحقاقات ملحّة، ولا عزاء لهم في معارضة هشّة لم تقدم خلال السنوات الدامية بديلا قابلا للتداول، أو في نظام فقد أهليته وفشل في تقديم أي مكاسب أو إنجازات للمجتمع والدولة، فإما الاستمرار بالتوحش وهمجية القرون الوسطى وإعادة إنتاج الاستبداد والتدمير الذاتي، وإما الديمقراطية وبناء الدولة العلمانية المدنية واحترام حقوق الجميع، فما سيقف بوجه الاستحقاقات المفروضة وينقذ سوريا ويردم التصدعات والتقسيمات هو أن يقدّم السوريون رؤاهم لبناء سوريا المستقبل المعبّرة عن حقوق ومصالح الجميع، وإعادة صياغة العلاقة بين الدولة ومكونات المجتمع، فالمجتمعات تصنع نفسها وتبني دولها، إن امتلكت وعي النهوض وإرادته.
كاتبة ورسامة سورية