البعرة تدل على البعير

بين جريمة اغتيال المصور جوزيف بجاني وبين تفجير المرفأ خيوط لن يكشفها سوى قضاء مستقل لتتدحرج رؤوس الفساد والإجرام في لبنان؟
الأربعاء 2020/12/23
وحده القضاء الجريء يعبّد الطريق أمام الحقيقة

أفاقت قرية الكحالة اللبنانية التي تقع على مشارف العاصمة بيروت صباح الاثنين الفائت على عملية اغتيال شنيعة راح ضحيتها المصور المحترف الشاب جوزيف بجاني الذي قتل بمسدس مزود بكاتم للصوت في سيارته حين كان يهم بنقل أولاده إلى المدرسة.

يُلاحظ أن مرتكبي الجريمة قاموا بفعلتهم تلك بكل هدوء وبحرفية عالية ودون أن يكترثوا لكاميرات المراقبة المحيطة بالمكان وكأنهم يتعمدون أن تظهر فعلتهم بوضوح كي يبثوا الرعب في قلوب الناس. قتلوا المغدور وأخذوا هاتفه وآلة التصوير خاصته وانسحبوا بكل هدوء.

بالمختصر، عملية الاغتيال تلك قامت بها جهة محترفة ومنظمة ولا تخشى أن يُكتشف أمرُها لأنها، في ظني، تمتلك السطوة والسيطرة وترى نفسها فوق القوانين والمؤسسات وبعيدة عن أي حساب.

فما الذي أراده مرتكبو جريمة الاغتيال هذه وبهذه الطريقة، أو ما الذي يريدون إخفاءه إلى الأبد بمقتل جوزيف بجاني المصور المحترف؟ وهل لذلك علاقة بتفجير مرفأ بيروت بعدما ذُكر أن المغدور به عمل مع محققين أجانب في تصوير وتوثيق جريمة المرفأ؟

جملة أسئلة تطرح نفسها بقوة في ظل الاشتباك الحاصل على الساحتين القضائية والسياسية بخصوص التحقيقات والاتهامات التي أطلقها المحقق العدلي القاضي فادي صوان في جريمة تفجير المرفأ والتي تصدّت لها القوى المسيطرة مجتمعة في محاولة لإجهاضها بعد أن طالت رؤوسا كبيرة.

ويزداد إلحاح مثل هذه الأسئلة حين نعرف أن التحقيقات في جريمة مقتل العميد المتقاعد في الجمارك منير أبورجيلي لم تصل إلى نتيجة بعدُ، حيث يربط مراقبون هذه الجريمة أيضا بالتحقيقات الجارية في جريمة المرفأ.

وكان قد حذّر مراقبون من حملة اغتيالات في البلاد كنتيجة محتملة لمسار التحقيق في عملية تفجير مرفأ بيروت خصوصا إذا تبيّن أنه كشف خيوطا توصل إلى الحقيقة، وذلك على خلفية ما أطلق قبل أيام من إشاعات حول دخول مجموعات كوماندوس إسرائيلية إلى الشواطئ اللبنانية وتجوّلها في بعض المناطق، وبالتالي استخدام مثل هذه الإشاعات للصق تهمة أي عملية اغتيال قد ترتكب بهذه المجموعات ورفع الشبهات عن المجرم الحقيقي، في حين يكون المطلوب من هذه الاغتيالات تصفية الشهود وإخفاء الدلائل المتعلقة بجريمة تفجير مرفأ بيروت.

ومن جانبها تؤدّي قوى الائتلاف المافيوي السياسية المسيطرة دورا حاسما في عرقلة التحقيق العدلي وتسويفه بالتوازي مع محاولات إفراغ الملف كاملا من الحقائق التي تؤدّي إلى كشف الجناة الحقيقيين. فمن جانبه، يتحصّن رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب بحصانته السياسية ويدعمه رؤساء الحكومات السابقون الذين يفترض أن يصل إليهم التحقيق والاتهام، باعتبار أن الادّعاء عليه يمسّ الموقع الأول للسنة في الدولة اللبنانية.

أما المتهمان الآخران وهما وزيران سابقان ونائبان حاليان؛ علي حسن خليل وغازي زعيتر، فقد تقدّما إلى محكمة التمييز بطلب سحب القضية من القاضي صوان “للارتياب المشروع”، وهو بند في قانون المحاكمات يعطي الحق للمدّعى عليهم أن يرتابوا في صدقية عمل القاضي أو في خضوعه لجهة سياسية تملي عليه ما تريد، في حين أن المحقق العدلي لم يدّعِ عليهما بعدُ.

أما نائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي فقد طالب باسم مكتب المجلس القاضي صوان بتسليم ملف التحقيق للمجلس النيابي “ليُبنى على الشيء مقتضاه”.

وجاء موقف البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي في عظة الأحد الفائت ليؤكد على هذه المخاوف حين ردّ على تلطّي المسؤولين السياسيين وراء حصاناتهم الدستورية والطائفية قائلا:

“الناس لا تهمّهم الاجتهادات القانونية المتنازع بشأنها. ما يهمّهم هو معرفة من قتل أبناءهم وفجّر المرفأ وهدّم العاصمة؟ تهمّهم معرفة من أتى بالمواد المتفجرة، ومن يملكها، ومن سمح بتخزينها، ومن سحب منها كميات بشكل دوري وكيف؟ ومن غطّى هذه العنابر طوال سبع سنوات”.

ويبقى المتضررون من تفجير المرفأ، هم الضحايا المباشرون وغير المباشرين، والمصابون في أجسادهم وأرواحهم وفي ممتلكاتهم، والذين دمّر التفجير الإجرامي عاصمتهم، الذين يخشون أن يتنحّى القاضي صوان عن مهمته تحت الضغوط المتزايدة عليه، ويصرّون على الذهاب في التحقيقات العدلية حتى الوصول إلى الحقيقة، يتجمعون بشكل يومي تحت منزله داعمين له مؤكدين وقوفهم الدائم خلفه.

بين جريمة اغتيال المصور المحترف جوزيف بجاني كما في جريمة اغتيال العميد منير أبورجيلي والعقيد جوزيف سكاف قبل سنوات، والتي جرت محاولة خبيثة للفلفتها، وبين جريمة تفجير المرفأ خيوط لن يكشفها سوى قضاء مستقل وجريء، فهل يقيض للبنان قاض على غرار أنطونيو دي بييترو الإيطالي فتتدحرج رؤوس الفساد والإجرام في لبنان؟

وبين هذه الجرأة في عملية تصفية جوزيف بجاني في وضح النهار وأمام كاميرات المراقبة وبهذه الحرفية وبين حزب الله المهيمن على ائتلاف القوى المافيوية المسيطرة في لبنان ويدعمه في تمرده على القضاء شيء ما يذكرنا بالقول المأثور “البعرة تدل على البعير”.

9