البشير يضع السودان في عهدة المؤسسة العسكرية

الإجراءات التي اتخذها الرئيس السوداني عمر حسن البشير، السبت، لاحتواء الأزمة المشتعلة في بلاده، أعادته إلى المربع الذي كان واضحا منذ اللحظة الأولى لاندلاعها، وهو منح الصلاحيات الكاملة للمؤسسة العسكرية، لكنه حاول في البداية إحداث توازن بين الجهات الأمنية المختلفة وحزب المؤتمر الوطني الحاكم، الذراع السياسي للحركة الإسلامية.
عندما بدت مواقف الأخيرة متذبذبة ومنقسمة ومتباينة الولاءات، انحاز البشير إلى الفريق الأمني، وزادت معالم انحيازه بعد ظهور مؤشرات مالت ناحية محاولة بعض القوى الإسلامية تقويض حكمه، وتصفية حسابات معارك قديمة معه، واستثمار الأزمة لتغليب رؤيتها على ما عداها، بما فيها الجيش، الذي حاول أن يكون أكثر انضباطا منها.
العارفون بأمور السودان يدركون أن عددا كبيرا من قيادات الجيش من كوادر الحركة الإسلامية، وميزة هؤلاء امتلاك قدر من الولاء تجاه المؤسسة العسكرية، ودعم الدولة قبل الحركة أحيانا، وهو ما أحدث خلافا مكتوما بين الجانبين، لأن القيادات السياسية لديها انتماء جارف إلى الحركة بما يفوق الغرام بالدولة، ومواقفها الأيديولوجية قبل الوطنية.
حيلة البشير الجديدة أنه اعترف مباشرة بأن القوات المسلحة الضامن للاستقرار، وليس هو أو الحركة الإسلامية، “بما يصون أمن البلاد ويجنبها مصائر شعوب ليست بعيدة عنا”، وقام بتعيين 6 وزراء اتحاديين و18 حاكم ولاية ينتمون كلهم إلى الجيش والشرطة، وهو تطور يحمل دلالات أمنية وسياسية غاية في الأهمية لأن معظم حكام الولايات من ذوي الجذور الإسلامية.
الخطوة التي أقدم عليها البشير، جاءت برفقة إجراءات مهمة، بينها وقف التعديلات الدستورية التي تخول له الترشح في الانتخابات الرئاسية المقبلة، ما يعني أنه يميل إلى ترتيب البيت من الداخل، وعدم استبعاد قبول فكرة “انقلاب القصر” التي راجت منذ بداية الأزمة، وحاول الالتفاف عليها معتمدا على قبضته الحديدية، ولا يزال يحدوه أمل في انطفاء شعلة التظاهرات والنكوص عن وعده تجميد التعديلات.
دعك من التناقضات التي حواها خطاب البشير الأخير بين فرض حالة الطوارئ والقبول بالحوار مع المعارضين، ودعك من المراوغات السياسية المتكررة، وتوقف عند التغير الحاصل في تعظيم دور الجيوش النظامية، والتي لا تعتدُّ بها الكثير من الأنظمة ذات الخلفية الإسلامية، وهو تطور فرضته الأحداث الكثيفة على الأرض.
البشير كرجل عسكري وإسلامي حاول الجمع بين الفريقين من خلال السعي لأسلمة الجيش، والاعتماد على القيادات العليا المؤدلجة والمعروفة بانتماءاتها الإسلامية، لأنه لا يملك الأعداد الكافية من أبناء الحركة لتعميم المسألة في الجيش، وهنا يمكن أن تشكل الرتب الوسيطة والصغيرة مشكلة أمامه، فغالبيتها من العناصر الشبابية الغاضبة من طريقة إدارة البلاد حاليا.
العسكرة التي يحاول البشير تكريسها، ربما تطال رئيس الحكومة الجديدة وعدد كبير من الوزارات الخدمية، لأن هؤلاء من أهم ضمانات استمرار النظام والحفاظ على حياة الرئيس، إذا استمر في السلطة أو خرج منها مضطرا، ومن أبرز الأدوات لوقف الاحتجاجات في الشارع، والحفاظ على وحدة دولة تعاني، أصلا، من أزمات معقدة في جميع أقاليمها.
تغليب دور أجهزة الأمن في التعامل مع الأزمة، يختلف في الحالة السودانية عن الحالات التقليدية التي تعتمد على القنابل المسيلة للدموع والهراوات المكهربة والمجنزرات، فليس المقصود وضعها في مواجهة مع المتظاهرين، لكن للحفاظ على مؤسسات الدولة، وتجنب مصير بعض الدول التي أدى انهيار جيوشها إلى دخول دوامات طويلة من المشكلات.
البشير يحاول الاستفادة من التجربة المصرية في ثورتي يناير 2011 ويونيو 2013 وتجنب مآلاتها السياسية السلبية، عندما أعلن الجيش وقوفه صراحة بجوار المتظاهرين ضد الرئيس حسني مبارك في الأولى، وضد الرئيس الإخواني محمد مرسي في الثانية، لذلك يريد البشير تصوير الجيش السوداني في شكل الضامن للاستقرار، ويستدعيه بنفسه بدلا من أن يُستدعى للتصرف معه بطريقة قد تغضبه.
الفرق الجوهري بين الجانبين، أن الجيش المصري عقيدته غير أيديولوجية بالمرة، ولذلك يحظى بثقة قطاعات عريضة من المواطنين، بينما لا تزال عقيدة الجيش السوداني إسلامية، حتى لو سعت بعض القيادات لتجاوز الأدلجة، والإيحاء بأنها وطنية قبل أن تكون إسلامية، فقناعات شريحة عريضة من السودانيين على يقين أن القيادات العسكرية والإسلامية وجهان لعملة واحدة.
قد تشوب هذا التقدير بعض الفروق النسبية، غير أنه في المحصلة النهائية يصب في خانة واحدة، ما يجعل الإجراءات التي اتخذها البشير قليلة الفعالية من الناحية السياسية، ولن تمتص السخط العارم في صفوف المواطنين، أو تستطيع وقف قوى المعارضة عن حشد الغاضبين.
تصدير المؤسسة العسكرية تحديدا لإدارة الأزمة، يتصور البعض أنه مخرج مناسب لتخطي عنق الزجاجة، لأن جهات كثيرة تخشى أن يقع السودان في فخ استمرار تظاهرات ممتدة، لا تتوقف قبل تحقيق مطلبها في إسقاط البشير، ما يشكل تهديدا قويا للدولة وجيرانها في ظل ظروف واهنة تعيشها البلاد وتجعل مصيرها مجهولا.
كما أن هذا المدخل يمكن أن يساهم في طمأنة دول قلقة من هيمنة الحركة الإسلامية على مفاصل القرار في السودان، وتجد في المؤسسة العسكرية جهة موثوقا فيها، حتى لو كانت هناك مرجعية إسلامية لبعض قادتها، وكشفت تجربة السنوات الثلاثين الماضية أن لدى هؤلاء قدرة كبيرة على المرونة والتأقلم مع التطورات الإقليمية والدولية، بدليل القبول بالانفتاح على دول تقف على النقيض من أيديولوجيتهم.
يبدو المضيّ في هذا الطريق جاء متأخرا، لأن حلقات الأزمة استحكمت، وقوى المعارضة بدأت ترمي بثقلها في الشارع، والمجتمع المدني يبدع في وسائل الضغط على نظام الخرطوم، وانتقل الفوران من الشوارع المحلية إلى بعض المدن العالمية، بما يؤثر على موقف المجتمع الدولي من الأزمة السودانية.
التراجع التكتيكي الذي أقدم عليه الرئيس البشير، لم يخفف حدة التظاهرات، وزاد من وتيرتها، لأن المواطنين تيقنوا أن النظام السوداني تأثر تحت وطأة شهرين من الاحتجاجات بهذه الدرجة، وكل تصعيد جديد يمكن أن يؤدي إلى المزيد من التنازلات، وصولا إلى مرحلة الانهيار أو التسليم بجميع المطالب السياسية.
حكام بعض الدول العربية الذين واجهوا انتفاضات واسعة السنوات الماضية، اضطروا إلى التسليم بمطالب المتظاهرين وسقطت عروشهم، الواحد بعد الآخر، ومروا تقريبا بالتجربة التي يمر بها السودان حاليا، إنكار للأزمة، ثم اعتراف جزئي بها، ثم رضوخ بالتغيير، وأخيرا استجابة لمطالب الجماهير كاملة.
لم تفض إطالة الأزمة إلى تغيير في النتيجة، ولم يؤدّ تبني خطاب المؤامرة أو تخويف المواطنين من مصائر ليبيا وسوريا واليمن إلى وقف التظاهرات، وهو ما ينطبق على السودان، فقد أوشكت الثمرة أن تسقط، ولذلك يريد البشير أن تقع في أيدي المؤسسة العسكرية التي ينتمي إليها، بعد محاولات توحي بأن هناك فصلا تاما بينها وبين الحركة الإسلامية، لأن مواقف الثانية العابرة للحدود أصبحت محل استنكار فئة كبيرة من المواطنين.
الجيش في الوجدان العام لدى السودانيين يحظى بتقدير جيد، على الرغم من الحسابات السياسية التي تتحكم في بعض قياداته، لكنه يظل ضامنا لمنع انحدار البلاد نحو مستنقع التفتت، وهو ما جعل شعار المتظاهرين “يسقط بس”، في إشارة إلى رحيل البشير أولا وعدم استبعاد القبول بوجه بديل.