البرودة الاقتصادية والسخونة السياسية مع مصر

كشفت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة أن مصر لا تزال رمانة ميزان عربية وإقليمية ودولية، خاصة في تفاصيل وتطورات الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، ويجب ألا تترك القاهرة لتهتز تحت وقع أزمات اقتصادية طاحنة، فالاتصالات التي تلقاها الرئيس عبدالفتاح السيسي من قادة عرب وغيرهم، والمشاورات التي قام بها وزير خارجيته سامح شكري تؤكد أنه لا غنى عن الدور السياسي لمصر.
كسر الاتصال الذي أجراه وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان مع الرئيس السيسي جمودا تراكم خلال الأسابيع الماضية ومنح الفرصة لتأويلات سلبية متباينة، لكن التواصل أكد أن العلاقات بين القاهرة والرياض يظهر معدنها في المواقف الكبرى، ولن يكون هناك محك أصعب من هذه الحرب، لأن نتائجها سوف تعطل تصورات إقليمية جرى تداولها مؤخرا، وأبرزها ملف التطبيع بين السعودية وإسرائيل.
وضع وليّ العهد السعودي أحد أهم رهاناته على تطوير منطقة نيوم القريبة نسبيا من الأراضي الفلسطينية التي تشهد توترات مستمرة، ويمكن أن تنتقل روافد غزة إلى خارجها فتؤثر على نيوم وغيرها من المشروعات الواعدة، فالحرب دخلت في حقل ألغام مليء بالتشابكات الإقليمية والدولية، ولذلك فاتصال الأمير محمد بن سلمان بالسيسي الذي أنهى القطيعة الصامتة له دلالات عدة يمكن أن تظهر معالمها الفترة المقبلة.
تحلت القاهرة بالصبر في غالبية التطورات التي مرت بها العلاقات الإسرائيلية مع بعض الدول العربية، ولم تتزحزح قناعتها بأن السلام والتطبيع والتعاون الإقليمي لن يكتب لها النجاح في غياب حل عادل للقضية الفلسطينية، وإذا كانت إسرائيل وخلفها أو معها الولايات المتحدة تريدان قطف ثماره عربيا بلا تضحيات أو تنازلات فهناك عطب في التفكير الإستراتيجي، فلا تستقيم الأمور في ظل إهمال القضية الفلسطينية.
◙ التطورات الساخنة في المنطقة تثبت أن عملية تجاهل مصر غير واردة مهما كانت الأسباب، وأن طرح مشروعات من خلف ظهرها مسألة تواجه بتحديات جمة
تشير الاتصالات التي جرت بين الرئيس السيسي وملوك ورؤساء عرب إلى الحاجة إلى دور سياسي مصري للتوصل إلى حل يوقف الحرب المجنونة التي تشنها إسرائيل، لأن الكثير من الدول العربية القريبة والبعيدة من هذه البؤرة قد تتضرر مصالحها.
واتجهت أنظار قوى غربية عديدة أيضا نحو القاهرة أملا في دور سياسي يسهم في حث الطرفين المتحاربين على منع الاندفاع نحو الهاوية، وخوفا من اتساع نطاق الحرب فتصبح مصر طرفا فيها بعد الحديث عن سيناريو إسرائيلي لتهجير فلسطينيي غزة إلى سيناء وعقب تهديدات بقصف قوافل إغاثة قررت مصر توصيلها إلى القطاع.
تستطيع مصر أن تقوم بهذه المهمة على أكمل وجه وتقي بعض الدول العربية والغربية من دفع ضريبة اقتصادية وسياسية وأمنية باهظة، كما قامت بها في مرات سابقة كانت الحرب فيها أقل ضراوة مما هو حاصل الآن، لكنها نجحت في وقف إطلاق النار بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل ونزعت فتيل حروب كان استمرارها يمكن أن يؤدي إلى خلط الكثير من الأوراق في المنطقة، وبدت تحركاتها مهمة ومؤثرة في هذه المسألة وحظيت بإشادة نادرة من الرئيس الأميركي جو بايدن.
يصعب أن تكون مصر فعّالة إقليميا في شأن فلسطيني متفجر ورئيسها قلق إن كانت فئة كبيرة من شعبه سوف تجد ما تأكله طوال اليوم أم لا، ويصعب أن يلعب دورا مؤثرا في الصراع وإيجاد مخرج مناسب له وبعض الدول الخليجية قطعت المنح والمعونات عن بلده أو حولتها إلى استثمارات منضبطة، كما توعدت الولايات المتحدة بقطع المساعدات السنوية أو جزء كبير منها.
على الرغم من الوجه الاقتصادي للموقفين الخليجي والأميركي، غير أن دوافعهما السياسية ليست غائبة عن المراقبين، فمهما كانت دواعي التغيّر الداخلية في المنح والمساعدات، فمصر تحملت ولا تزال تتحمل فوق طاقتها، فالوضع الاقتصادي الذي تمر به يمثل عائقا أمام تحركاتها، وطبيعة الدور الذي تعوّل عليه قوى إقليمية ودولية.
من يريدون للدور المصري أن تكتمل فصوله ويصبح منتجا من الناحية السياسية عليهم المساهمة بسخاء وعاجلا في حل جزء معتبر من الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد، فإجراءات القاهرة ستظل مقيدة إقليميا طالما أن البرودة الاقتصادية مستمرة.
ويعني كسر القيود بمفردها والتخفيف من حدة أزمتها بطرقها الخاصة أنها تتجه فقط إلى مراعاة مصالحها الأمنية المباشرة وهي قادرة على حمايتها بأدوات مختلفة، وعلى الدول التي يهمها الأمن والاستقرار في المنطقة البحث عن رعاة آخرين.
من حُسن طالع مصر أو سوئه أحيانا أنها الوحيدة في المنطقة المؤهلة للقيام بدور فعّال يسهم في تفكيك جوانب من الصراع الراهن، وشهدت كل التطورات السابقة على أن ما يجري في فلسطين قضية عربية، ومصرية على وجه الخصوص، بمعنى أن القاهرة لا يمكنها الغياب عنها، وإن فكّر البعض في تغييبها عنوة.
◙ القاهرة تحلت بالصبر في غالبية التطورات التي مرت بها العلاقات الإسرائيلية مع بعض الدول العربية، ولم تتزحزح قناعتها بأن السلام والتطبيع لن يكتب لها النجاح في غياب حل عادل للقضية الفلسطينية
تمارس مصر سياسة خارجية متوازنة شدد عليها الرئيس السيسي في مؤتمره الأخير “حكاية وطن”، وعلى الدول الحريصة على الاستفادة من ذلك عدم رهن مساعداتها الاقتصادية بأي مطالب أمنية أو سياسية من القاهرة، فالممانعات السابقة في الاستجابة لهذه المطالب لن تتغير في وقت تواجه فيه الدولة المصرية تحديات بالغة.
تثبت التطورات الساخنة في المنطقة أن عملية تجاهل مصر غير واردة مهما كانت الأسباب، وأن طرح مشروعات من خلف ظهرها مسألة تواجه بتحديات جمة، هذا ما تعلمته الولايات المتحدة وبعض الدول العربية من الحرب على غزة، وانهيار ترتيبات اعتقد أصحابها أن تهميش مصر وإخراجها من المعادلة القادمة يفضيان إلى نتائج جيدة.
قد تكون الحاجة إلى دور القاهرة واحدة من الدوافع التي يجب أن تغيّر طريقة التعامل الاقتصادي معها، وإيجاد حلول لتخفيف أزمتها، لأنها واحدة من الهموم التي تكبّل الدور الإقليمي لمصر، بما يفيد الكثير من الأطراف الحريصة على التهدئة.
ينطوي التوقف عن البرودة الاقتصادية بمستوياتها المختلفة على إمكانية واعدة لتسخين دور مصر السياسي بالطريقة التي تُحدث توازنات تخفف من الضغوط التي تتعرض لها قوى إقليمية ودولية وتفتح الباب للتفكير في تنفيذ مشروعاتها بعد تصويب بوصلتها العامة من خلال البحث بجدية عن حل للقضية الفلسطينية، فقد أدى الفراغ السياسي وتكسير عظام السلطة الوطنية في رام الله إلى ملئه عسكريا.
يمكن أن تعيد الحرب على غزة الاعتبار لدور مصر في المنطقة بعد أن استهان به البعض أو تصوروا أن إغراقها في أزمتها الاقتصادية كفيل بهندسة الأوضاع الإقليمية بعيدا عنها، ويؤدي تصحيح هذه الفكرة إلى تجاوز الكثير من الصعوبات التي أوجدتها الحرب على غزة، أما التصميم عليها فسوف يزيدها تعقيدا، لأن لدى القاهرة خيارات يمكن اللجوء إليها، وبدائل تستطيع بموجبها تخفيف الضغوط عنها.