"البرباشة".. سواعد تونسية تصنعها الحاجة وقلة ذات اليد

تونس - تنصهر الأيادي المتعبة للبحث في الأكوام المتروكة وبقايا المنازل المكدسة في الحاويات في شغل يومي لا يلتزم بقوانين ولا يولي أي أهمية للأعراف وللمسموح به، همّها الوحيد هو الظفر بلقمة عيش في ظل أزمة بطالة متفشية. هو حال "البرباشة" في تونس، فئة وجدت ضالتها في انصهارها مع ما يخلفه غيرها من فضلات بلاستيكية وعلب ملقاه في الشوارع والأزقة الضيقة نظير الحصول على مقابل مادي زهيد.
وتعمل تونس منذ سنوات على تطوير سوق التشغيل وإنشاء مؤسسات صغرى في مجال تجميع وإعادة تدوير البلاستيك، في المقابل يفرض النمط الاستهلاكي للحياة العصرية زيادة النفايات المختلفة التي تلقي بها المنازل والمكاتب والشركات في حاويات القمامة. وفي ظل النمو الديمغرافي وتزايد عدد سكان تونس الكبرى أصبحت مشكلة النفايات البلاستيكية أمرا يؤرق الحكومة التونسية، لا للتخلص منها فقط بل لجعلها موردا اقتصاديا مهمّا ومزودا للمصانع ببعض المواد الخام عبر عملية إعادة تدويرها.
ولئن تمثل النفايات الصلبة مشكلة بيئية قائمة بذاتها نظرا للتلوث البيئي الذي ينجم عنها، إلا أنه من خلال إعادة تدويرها يمكن الاستفادة منها، بدلا من رميها بشكل عشوائي أو نقلها إلى مكب عام للقمامة حيث يتم غالبا تجميعها ومن ثم ردمها من دون معالجة. فقد يمكن أن تصبح مصدرا للثروة اقتداء بعدة تجارب أوروبية حققت نجاحا في هذا الجانب، خصوصا عبر الاستفادة من المخلفات المنزلية، البلاستيكية أساسا، عبر إعادة رسكلتها والاستفادة منها في التصنيع.
وعلى المستوى العالمي، توصف صناعة إعادة تدوير البلاستيك بأنها الصناعة التي تدر ذهبا. فالمواد الأولية لهذه الصناعة متوافرة ورخيصة، بل يزداد توافرها بازدياد السكان.
تونس رفعت منذ 10 سنوات شعار 'االنفايات مصدر للثروات' سعيا لخلق مؤسسات بيئية
"البرباشة" يخوضون التحدي
في تونس يطلق عليهم باللهجة العامية التونسية "البرباشة"، أي الذين ينبشون الفضلات لجمع ما قد يصلح لاستغلاله أو بيعه. هم أناس تقطعت بهم سبل الحياة فوجدوا في هذا النشاط مورد رزق لهم.
"البرباشة" يتحدون المخاطر الصحية المحيطة بعملهم ويعانون صراعا يوميا مع رجال الشرطة البلدية الذين يعتبرون أن ما يقوم به هؤلاء مخالفة بيئية، غير أنهم متشبثون بعملهم، حتى وإن كان بالكاد يسد رمق عائلاتهم، مادام أمل إيجاد فرص شغل في البلد أمرا صعب التحقق.
هم بعيدون عن السياسة ولا يهمهم أمر الاقتصاد ونزول العملة أو صعودها، همهم الوحيد هو ما ستتكرم به القمامة عليهم حتى يعيدوا بيعه.
منهمكا في حاوية للقمامة بأحد الأحياء الشعبية بتونس العاصمة يلتقط القوارير البلاستيكية وقطع الخبز اليابس، يجمعها كلّ على حدة في أكياس، ثم يرميها في عربته الصغيرة وينطلق في رحلة بحث بمكان آخر.
هكذا يقضي مصطفى البياتي، ابن الـ26 عاما، يومه متنقلا من موقع إلى آخر غير مبال لا بقيظ الصيف ولا ببرد الشتاء ولا برائحة النفايات التي تزكم الأنوف.
يقول مصطفى “ألمح نظرات الاشمئزاز والتأفف في عيون المارة بسبب طبيعة عملي، لكن ذلك لا يثنيني عن مواصلة طريقي، طالما أكسب قوت يومي بعرق جبيني وأضمن توفير لقمة لعائلتي المكونة من 5 أفراد دون أن أمد يدي لأحد”.
|
ما يثير الريبة والدهشة أكثر أن البياتي حاصل على شهادة جامعية في علوم التصرف، لكن الحظ لم يسعفه في الحصول على وظيفة تلائم مستواه التعليمي.
ويوضح قائلا إن “عملي في هذه المهنة كان آخر خيار لي كمورد رزق أجني منه بالكاد ما يسد رمق العائلة من أبسط ضروريات الحياة الكريمة. طرقت كل الأبواب وكنت أحلم بوظيفة محترمة تتلاءم مع تكويني الجامعي، لكن طال انتظاري ولا أحد يهتم لأمري، ولم أجد سوى النبش في القمامة كمورد رزق لي ولعائلتي”.
وبعد يوم شاق يقضيه مططفى في هذا العمل وبعد تجميع عدد لا بأس به من القوارير البلاستيكية، يقوم بالتوجه إلى نقاط تجميع صغرى منتشرة في العاصمة يديرها وسطاء بين “البرباشة” ومعامل إعادة التدوير ليحصل على مبلغ أقل من ربع دولار عن الكيلوغرام الواحد من القوارير.
ويرى مصطفى أن نقاط التجميع، وهي الوسيط بين “البرباشة” والمصانع، تزيد في معاناة هؤلاء حيث تشتري منهم المواد البلاستيكية بأبخس الأثمان ثم تبيعها لمصانع إعادة التدوير بأسعار أعلى بكثير.
وعموما لا يتجاوز الدخل اليومي “للبرباش” 4 أو 5 دولارات، بعد يوم شاق يقضيه في التنقل من مكب نفايات إلى آخر، “لكن ما باليد حيلة” كما يقول مصطفى.
صراع مرير مع الشرطة البيئية
بخلاف المخاطر الصحية التي تواجه هذه الفئة لجهة طبيعة عملها الذي يجبرها على استنشاق الروائح الكريهة، يعيش "البرباشة" صراعا يوميا مع رجال الشرطة البلدية وخاصة الشرطة البيئية التي وقع بعثها مؤخرا، الذين يعتبرون ما يقوم به هؤلاء مخالفة بيئية وعملا عشوائيا، لا سيما بعد تلقيهم شكاوى من سكان الأحياء بسبب نبشهم الأكياس أو قلبهم لحاويات الفضلات، فيكون مصير بعضهم التعرض لغرامات مالية تزيد من معاناتهم.
ويقول أحد المسؤولين عن مستودعات جمع القمامة والفضلات المنزلية بجهة بن عروس (شمال تونس)، إن شكاوى كثيرة تصلهم من المواطنين بخصوص نشاط “البرباشة” العشوائي وتعمدهم فتح أكياس القمامة ونبشها، مما يجعلها مرتعا للقطط والكلاب السائبة والحشرات، ويزيد في مشاكل التلوث البيئي، لذلك “تسعى إدارة البلدية بالتعاون مع الشرطة للتصدي لهؤلاء أو على الأقل لتنبيههم”.
الباحث في علم الاجتماع جهاد الحاج سالم يتحدث عن تفاقم ظاهرة “البرباشة” في تونس الكبرى واتساع رقعة نشاطهم فيقول “من إفرازات الثورة كان انتشار الأنشطة الاقتصادية غير النظامية في شوارع تونس وأحيائها الشعبية”.
"البرباشة" يعيشون صراعا يوميا مع رجال الشرطة البيئية الذين يعتبرون ما يقوم به هؤلاء مخالفة بيئية وعملا عشوائيا
ويضيف الحاج سالم أنه في حي دوار هيشر مثلا، أحد أضخم أحياء تونس الشعبية وأقدمها، والواقع بولاية منوبة غرب العاصمة “يضطر الكثير من السكان إلى استغلال الشارع اقتصاديا، في إطار وضع اجتماعي يتسم بندرة فرص الشغل والهشاشة الفائقة”.
ويتم استغلال الشارع من خلال أنشطة تجارية، مثل “استثمار حاويات النفايات والميكانيك، والخردة الصغيرة أو نصب بسطات” بيع الخضار والغلال والملابس، وهي في معظمها أنشطة غير نظامية”.
و“البرباش” حسب الحاج سالم، لا يمثل سوى فاعل صغير ضمن حقل اقتصادي واسع غير أنه الفاعل الأدنى مكانة والأقل استفادة من الموارد المتداولة ضمنه، ذلك أنه يمارس نشاطا اقتصاديا شاقا مقابل مكسب مادي زهيد.
ويضيف الباحث في علم الاجتماع أنه استنادا إلى دراسة أجريت سابقا حول هذه الظاهرة فإن “البرباش” الواحد يجمع يوميا ما معدله مئة قارورة بلاستيكية، أي ما يساوي 6 دنانير (أقل من 3 دولارات) عند البيع لدكان التجميع، لكن أصحاب محال التجميع يجنون في المقابل المئات من الدنانير أسبوعيا، دون عناء تقريبا.
وتكاثرت محال ونقاط التجميع الخاصة في الأحياء بعد الثورة وهي تحقّق أرباحها من الوساطة بين “البرباشة” ومصانع البلاستيك التي تعتبر الرابح الأكبر، إذ تجد يدا عاملة هشّة تضمن لها تجميع المواد الأولية التي تحتاجها في صناعتها عبر وسيط غير مباشر، دون أن تلتزم معها برابطة شغلية تعاقدية وقانونية.
وبالرغم من محاولات الدولة تنظيم عمل هذه الفئة المهمشة داخل المجتمع وتقنين نشاطها عبر إنشاء أول جمعية “للبرباشة” بجهة حي التضامن، وهو أكبر الأحياء الشعبية الفقيرة جنوب العاصمة، فإن أغلبهم يعمل بشكل عشوائي ولا تعنيه مثل هذه الجمعيات في ظل غلاء المعيشة وانسداد آفاق الشغل.
العم حميد واحد من هؤلاء الذين لا يستهويهم النشاط الجمعياتي ولا يكترثون بالمسألة أصلا. ففي نفس المكان وفي نفس الساعة يركن دراجته الهوائية المشدودة إلى عربته ثم ينطلق برفقة ابنه أشرف الثلاثيني في رحلته اليومية بالأحياء الراقية بين حاويات النفايات لجمع قوارير البلاستيك في كيس يشده إلى ظهره قبل أن يفرغه لاحقا في عربته.
يراقب العم حميد باحتراف كل ركن في الحي بحثا عن قارورة قد تضيف المزيد من الوزن لأكياسه.
|
العم حميد هو واحد من الآلاف من جامعي قوارير البلاستيك المتعاقدين مع عدد من نقاط التجميع، منها المرخص لها في إطار برنامج وضعته الحكومة للتصرف في النفايات وإعادة تدويرها حفاظا على البيئة، ومنها ما هو غير مرخص.
يقول العم حميد، الذي غيرت أشعة الشمس الكثير من ملامح وجهه المتعب، إن المئات من العائلات تعيش على جمع البلاستيك وإن هذه المهنة تدر أموالا كثيرة على الشركات المختصة في التجميع وإعادة التدوير والوسطاء، غير أن دخل جامعي البلاستيك يبقى ضئيلا نظرا لارتفاع عدد ما يصطلح عليه بـ”البرباشة”، مشيرا إلى أن ما يجنيه لا يتعدى بعض الدنانير كل يوم.
منظومة "إكولف" الحكومية
توفر منظومة “إكولف” للتصرف في النفايات حسب إحصائيات رسمية نحو 15 ألف فرصة عمل نسبة كبيرة منها لصالح أصحاب الشهادات العليا.
وتهدف هذه المنظومة التي وضعتها الدولة التونسية منذ أكثر من 10 سنوات إلى تقليص كمية النفايات التي يتم دفنها في التربة وذلك لحماية البيئة من أضرار البلاستيك واستغلال أكبر قدر ممكن منها في إنتاج الطاقة. كما يمكن إعادة استخدامها مجددا عبر إعادة تدويرها.
وتعمل الحكومة على تطوير هذه المنظومة حتى تكون داعمة للاستثمار وباعثة لعدد كبير من فرص العمل.
ويضيف حميد، الذي تجاوز الستين من عمره وهو منهمك في ما يمكن أن تجود به الحاوية، إنه أولى اهتماما لجمع القوارير من الأحياء الراقية نظرا لارتفاع نسبة استهلاك القاطنين فيها للمياه المعلّبة.
فيما يشتكي كما الكثيرين غيره من سيطرة الوسطاء على القطاع قائلا إن “الوسيط يسرق من جهده بشراء البضاعة بأرخص الأثمان قبل أن يبيعها للشركات التي تهتم بإعادة تدويرها”.
كما يقرّ بأن المسنين العاملين في هذا القطاع هم الأكثر تهميشا والأقل دخلا بسبب صعوبة تنقلهم لمسافات طويلة والعمل لساعات عديدة وهذا لا يتماشى مع صحتهم، مشيرا إلى أن تلاميذ المدارس يمارسون هذه المهنة خلال العطل الصيفية حيث تزداد كميات القوارير المستهلكة لتتسبب في المضاربة على الأسعار والتلاعب بالميزان فينخفض السعر، مخلفا ضررا على “البرباشة” لا الوسطاء والشركات العاملة في مجال التدوير.
وأوضح أن 90 بالمئة من المشتغلين في مجال الفرز وإعادة التدوير يعملون بطريقة غير قانونية والكثير منهم له معدات صهر البلاستيك، وذلك ما يفسر ارتفاع عدد جامعي العبوات والقوارير البلاستيكية.
ورغم تواضع مستواه الدراسي، الذي لم يتجاوز المرحلة الإعدادية، فإن الرجل يفصح عن دراية كبيرة بعلوم الطبيعة والأرض. كما أصبحت له خبرة في التعامل مع النفايات وطرق الاستفادة منها.
ورفعت تونس منذ نحو عشر سنوات شعار “النفايات مصدر للثروات” الذي تسعى من خلاله إلى تطوير سوق العمل وخلق المؤسسات البيئية الصغيرة. وتشترك في تنفيذ هذا البرنامج وزارة البيئة والتنمية المستدامة والهيئات المعنية بالتمويل والتأهيل والتشغيل، وهو ما خلق الآلاف من فرص العمل في مجالات رفع النفايات وتدويرها وإدارة المساحات الخضراء وتجميل المدن.