الباركور رياضة تجمع بين القوة والليونة والتوازن

تلاقي رياضة الباركور رواجا واسعا بين الشباب، لا سيما خلال الآونة الأخيرة في الدول العربية، لتصبح بذلك أحد التدريبات المفضلة للإناث والذكور على حد السواء. وفي الوقت الذي يعتقد فيه البعض أن لهذه الرياضة مخاطر أكبر من بقية الرياضات الأخرى، يؤكد المدربون أن عدم استخدام أي أدوات أو معدات عند ممارستها يجعلها رياضة أكثر أمانا وسلامة من التزلج مثلا.
برلين - تجمع رياضة الباركور بين مجموعة من التمارين في الآن نفسه، مثل الركض والقفز والقرفصاء والإطالة. وكلها تمرينات تتطلب جهدا مكثفا لتدريب العضلات دون التسبب في أي ضرر أو تمزق أو أي نوع من الإصابات.
بخطوات متسارعة وقفزات متتالية يطير طاهر وأنيس في الهواء، يتفنّنان في الحركة وبمهارة يتدحرجان فيجتازان كل الحواجز التي تعترضهما من أسقف وجدران، ينافسان الفهود في الخفة والمهارة. يبرع الشّابان التونسيان في ممارسة رياضة الباركور التي تخطو اليوم خطواتها الأولى في تونس والعالم العربي.
يختار الشابان في كل مرة موقعا سياحيا في بلدهما تونس، فينطلقان إليه بكاميرا ومعدّات بسيطة ليوثقا مشاهد لفن التّعلق والتحليق في الهواء، فيبرزان من خلالها قدرات جسدية فائقة، وحركات رياضيّة خطيرة. أنيس وطاهر حطّا الرّحال هذه المرّة في قرية تكرونة الأمازيغية الواقعة في محافظة سوسة شرقي البلاد، تلك القرية الصامدة فوق تلّة صخرية، واختارا القفز والركض فوق أسطحها ومبانيها.
وككل رياضة تعتمد على قوة التحمل، يوصي مدربو اللياقة بضرورة القيام بحمية قبل الشروع في ممارسة الباركور.
وكلما استعدت العضلات للنشاط كما يجب، ساعد ذلك في رفع قدرتها على التحمل وزاد من مرونتها ولياقتها. ويستبعد تقرير نشر في الموقع الرسمي للجمعية السويسرية (باركور لوزان) أن تتسبب رياضة الباركور في تأثيرات سلبية على الجسم في وقت لاحق.
وأوضح التقرير أن أول ممارسي رياضة الباركور يتدربون منذ أكثر من عشرين سنة وتجاوزوا الآن سن الأربعين، ومع ذلك يواصلون التحرك اليوم، وهذا يسمح على الأقل باستبعاد الفرضية التي يتخوف منها البعض التي مفادها أن الركبتين ينتهي بهما المطاف إلى التلف.
كما بينت إحدى الدراسات أنه على عكس ما قد نتخيله، تتسبب رياضة الباركور في عدد قليل من الجروح (5.5/ 1000 ساعة من التمرين، و70 بالمئة منها خدوش للجلد).

وأوضحت دراسة أخرى أجريت عام 2014 على رياضيين برازيليين، انتشار الإصابات بنسبة 61.5 بالمئة وأغلبها في الأطراف السفلى. يمكن أن يبدو هذا الرقم كبيرا إلى أن قارنه الباحثون بالجمباز (76.7 بالمئة) أو الركض (79 بالمئة) على مدى ستة أشهر. ولاحظوا أيضا أن نسبة الإصابات تتقلص مع التقدم في السن (وتتمثل الفرضية في أن الكبار أقل تعرضا للمخاطر) ومن الممكن تخفيضها بتقليص وقت التدريب إلى أقل من ثلاث ساعات.
يفسر تقرير الجمعية السويسرية أنه يمكن ممارسة رياضة الباركور وفقا لأنماط شديدة الاختلاف، مثلا يمكن لبعض البنايات توفير المزيد من الإمكانيات للتدريب على علو مرتفع. ويتدرب بعض الممارسين لهذه الرياضة وحدهم في حين يحظى آخرون بمرافقة ممارسين أكثر خبرة. ويبحث البعض عن الأداء بينما يفضل آخرون الإبداع أو التنمية الذاتية.
ويرى الباحثون أنه من المحتمل أن نسب الإصابات ومدى خطورتها يختلفان حسب قيام الرياضي بشقلبات أو عدم قيامه بذلك (من المرجّح أن يكون الهبوط على شيء آخر دون القدمين، كما من المحتمل إنجاز شقلبات قوية من شأنها أن تشكّل خطرا على المفاصل…).
وتجدر الإشارة إلى أن التقنيات المستعملة في رياضة الباركور لتخفيف الارتطام عند القفز مقارنة بالتقنيات التي تستعمل تقليديا في الرياضات الأخرى، تسمح بتقليص القوى المتدخلة بنسبة 40 بالمئة وزيادة الوقت بنسبة 60 بالمئة حتى الوصول إلى ذروة القوة، وهو ما من شأنه أن يسمح للجهاز العصبي العضلي بأن يرد الفعل بشكل أنجع.
وتبقى الحوادث نادرة جدا وهي بالأساس إصابات ناتجة عن التعب وعن الإفراط في إنجاز التمارين، وتتعلق بالرياضيين الذين يكونون عموما متحمسين جدا إلى درجة تمنعهم من الراحة ويتمرنون بشكل غير مخطط له.
ويقدم المدربون مجموعة من التوصيات لتفادي أي نوع من المخاطر:
* الشروع في زيادة كثافة الحركات بشكل تدريجي جدا، وإن أمكن بصحبة ممارسين ذوي خبرة واسعة يقدرون على الإشارة إلى الأخطاء الأكثر خطورة.
* بالنسبة إلى الممارسين الأصغر سنا، التدرب مع الأكبر سنا قد يسمح بتعديل الحدة ومن ثم تقليص المخاطر.
* القيام بالتمارين الإحمائية بشكل صحيح ثم زيادة حدة الحركات الممارسة خلال الحصة تدريجيا.
* الحفاظ على مدة الحصص لأقل من ثلاث ساعات وتجنب فترات الراحة المطولة قبل استئناف التمارين وفي صورة حصول ذلك ينبغي إعادة التمارين الإحمائية بين الحصّتين.
* وضع حد لعدد الحصص ذات الحدة العالية خلال الأسبوع.
التمرن بانتظام، وفي الغالب يكون التمرن في الهواء الطلق فالجسم في حاجة إلى حد أدنى من القيود ليتأقلم، ومن الخطورة التمرن في الداخل بصفة حصرية ثم القيام بتدريبات خارجية غير منتظمة على الإسمنت بينما الجسم ليس متعودا على ذلك. ويمكن للتمرن بشكل متقطع أن يتسبب في إصابات، بما أن الجسم يتناوب على فترات من عدم التمرن وفترات من الإجهاد الشديد. ومن الأحسن القيام بالقليل من التمارين بصفة دائمة (مع راحة تتراوح بين يوم إلى ثلاثة أيام في الأسبوع) بدلا من ممارسة بعض الحصص الكبرى غير المنتظمة.
ارتداء حذاء مناسب يسهم في الإحساس بالأريحية ولا يضغط بشدة على الكاحلين، مع الحرص على القيام بتمارين تحسّن استقرار الكاحل إذا كانت الرضات متكررة.
تأسست جمعية “باركور لوزان” في أوت عام 2013 وهي تهدف إلى “التشجيع على ممارسة رياضة الباركور وتحث الناس على اعتمادها كطريقة للتنقل ونوع من أنواع التدريبات، إضافة إلى اعتبارها فنا قائم الذات”.
وكان ظهور رياضة الباركور لأول مرة في فرنسا في أواخر الثمانينات من القرن الماضي وبدأت كنشاط عسكري، ثم انتشرت بعد ذلك في الكثير من البلدان الأخرى مثل بريطانيا التي أصبحت الدولة الأولى التي تعترف بالباركور رسميًّا كنوع من أنواع الرياضة، عام 2016.
وهناك من ينسب النشأة الحقيقية للباركور إلى الفرنسي دافيد بال الذي استلهم فكرته من والده ريموند الذي كان يعمل في الجيش الفرنسي. كان دافيد بال يمارس في البداية الجمباز والتسلق وفنون القتال والركض وساعدته كل هذه الرياضات في عمله كرجل إطفاء. ثم أولى اهتماما أكبر لنشاط جمع فيه كل تلك التمارين وأخرجها في شكل يحفز كل العضلات على العمل ورفع قدرة التحمل. ويقول بال “الباركور ليس البحث عن أعلى بناية أو القفز من بناية إلى أخرى إنما هو أن تتحرك إلى أن تجد نفسك وما تريده”.
كلمة “باركور” مشتقة من الكلمة الفرنسية parcours، التي تعني المسار أو الطريق.
ورياضة الباركور هي رياضة بدنية غير تنافسية تتضمن التحرك بحرية على أي أرض وتخطي أي عقبات باستخدام القدرات البدنية فقط عن طريق الركض والقفز والتسلق والزحف، إلى جانب أي حركات أخرى يتطلبها الموقف. عادةً ما تمارس رياضة الباركور في أي مكان في المدينة؛ فالهدف منها هو رؤية البيئة نفسها بطريقة جديدة.
الهدف الأساسي لهذه الرياضة هو التحرك من نقطة إلى أخرى بأكبر قدر من السلاسة والكفاءة الممكنة. ويعرف ممارسو الباركور باسم “المتتبعون” (traceurs) وهو اسم مشتق من الفعل الفرنسي تتبع. ومن ثم، فهي تتطلب قوة ولياقة بدنية وتوازنًا ووعيًا بالمكان وخفة حركة وتنسيقًا وحكمة وقدرة على التحكم في الجسم ورؤية إبداعية.
وبحثت دراسة سابقة تأثيرات ممارسة الباركور على العضلات وقارن الباحثون بين مجموعة نشطة (تضمّ مدرسين للتربية البدنية) وممارسين لرياضة الباركور. وتوصلوا إلى أن الفئة الثانية من المجموعتين تملك قوة تفوق قوة المجموعة الأولى وذلك في كل الميادين الممتحنة (الجر وقوة القبضة وتمارين الضغط والقفزات الأفقية والقفزات العمودية بقدم أو قدمين)، باستثناء مستوى قوة القبضة التي كانت متماثلة لدى المجموعتين.
جاء في تقرير “باركور لوزان” أنه خلافا للرياضات الأخرى التي تركز على أهداف خارجية، ينصب اهتمام الباركور دائما على جودة الحركة في حد ذاتها. وأن التركيز لا يكون على القفزة (الجميع يكتسبون القدرة على رمي أنفسهم في الفراغ، ثم تتولى الجاذبية عملها بشكل جيد)، بل على الهبوط.
ولا تقتصر رياضة الباركور على الشبان الذكور فحسب وإنما تستهوي الإناث أيضا. ففي مصر تتدرب مجموعة من الفتيات بشكل مكثف على مدى عدة أشهر بهدف تشكيل أول فريق محترف للاعبات الباركور في البلاد.
وشاركت عشر فتيات، بإحدى ضواحي القاهرة، في تدريب ركز على تعزيز قوة الجزء العلوي من الجسم وتطوير تقنيات جديدة للتعامل مع البيئة المحيطة. وقالت لاعبة في المجموعة تدعى زينب إن الجمهور في البداية لم يتقبل ممارسة الفتيات لهذه الرياضة لأنه لم يتعود على رؤية الفتيات وهن يمارسن الرياضة في الشارع، مشيرة إلى أنها تعتقد أن الأمر مسألة وقت فقط حتى يعتاد الناس عليه.
وأضافت زينب أن رياضة الباركور مكنتها من التغلب على مخاوفها وشجّعتها على القيام بما تريد. أما محمد عمران مدرب الفتيات فأشار إلى أن هذه الرياضة انتشرت وأصبح من العادي الآن رؤية فتاة تتدرب على الباركور في الشوارع.
وعمران عضو في فريق “باركور إيجيبت” الذي بدأ بعدد قليل من اللاعبين وأصبح الآن يُدرب المئات في مختلف أنحاء مصر.
جدير بالذكر أن الكثيرين يشبهون رياضة الباركور بالعدو الحر أو القفز الحر وهو ما يتبادر إلى أذهانهم عند متابعة بعض مشاهد الفرار في أفلام الحركة، تلك المشاهد التي يعمد فيها الشخص الفارُّ إلى الجمع بين القفز والركض وتجاوز الحواجز وتسلق البنايات للهروب ممن يلحق به. ولا تتشابه رياضة الباركور من حيث الحركات، فكل شخصٍ يقوم بما يستطيع فعله، وهنا يأتي مجال الإبداع الفردي.