الباحث السري

ازدهرت بباريس في ثمانينات القرن الماضي ظاهرة الباحثين المغاربيين السريين، ممن يقدمون خدمات دراسية لطلاب عرب وفدوا من بلدان مشرقية وخليجية غير مفرنسة. بعضهم حصل على منحة للدراسات العليا دون أن تكون لديهم مفردات كافية لطلب خدمات في مطعم، واستطاعوا بعد ذلك أن يقدموا رسائل لنيل دبلوم الدراسات العليا أو الدكتوراه، في موضوعات تتصل بالأدب العربي والفلسفة الإسلامية وغيرهما، بعد تحصيل تعليم متوسط في اللغة.
كانت الأطروحات منجزة من قبل باحثين سريين (مغاربة وجزائريين في الغالب) ممن تقطعت بهم السبل وحولوا ذكاءهم وكفاءتهم إلى مورد رزق، فكتبوا أبحاثا تستوفي مجمل القواعد الأكاديمية، وبأمانة ملحوظة، لزملائهم، مقابل مبالغ مالية، ليعود أصحابها إلى بلدانهم ويدرّسوا الطلاب مواد تتصل بمجال اختصاصهم المفترض في أقسام اللغة العربية والفلسفة، مع شهادات من جامعات فرنسية مرموقة، وتهرب دائم من الدخول في تفاصيل أبحاثهم أو المساهمة في ندوات بلغة من المفترض أنهم كتبوا بها المئات من الصفحات.
لكن مع بداية الألفية الجديدة شرع بعض الباحثين العرب ممن لهم بحبوحة مالية في اللجوء إلى باحثين سريين من جنسيات مختلفة لإعداد أبحاث في ميادين شتى، الفارق الوحيد أن هؤلاء لم يكونوا بنزاهة ولا بكفاءة أسلافهم، وإنما مجرد نصابين ممن يعيدون تدوير بحوث منجزة عبر أرجاء العالم، بمساعدة محركات البحث والترجمة، والنتيجة دوما هي وجود طائفة من حملة الألقاب الجامعية المزيفين، لكن دونما منجز حقيقي يقيهم الفضيحة هذه المرة، لأنهم اشتروا بضاعة مسروقة في الأصل.
اقترنت هذه الظاهرة مع خضوع الدراسات العربية في العديد من الجامعات الغربية لمصادرة غريبة، حيث تنجز الأطروحات في الأدب الفرنسي بالفرنسية والألماني بالألمانية والإسباني بالإسبانية، إلاّ اللغات الشرقية فإنها تدرّس وتكتب الأبحاث في موضوعات متصلة بها بلغات أخرى، وهو ما جعل أدونيس ذات يوم يصر على تعريب دروسه في السوربون داعيا الطلبة إلى بذل جهود إضافية لتملك معارف في الآداب التي يدرسونها.
استحضرت كل هذه الأفكار وأنا أتابع عددا من الرسائل في الجامعات المغربية التي يصر فيها أصحابها على تأثيث فصولها بكتب بلغات أجنبية لم يطلعوا عليها ولا أثر لها في مهارتهم وفكرهم ولا يتقنون لغاتها، وهي مأخوذة أحيانا بأخطائها من مراجع وسيطة، تحار في النهاية في فهم الظاهرة التي تحوّل كل الجهد المعرفي في اكتساب المعارف عبر لغات شتى إلى مجرد ملمح شكلي، لا رهان له سوى اجتباء نوع من الوجاهة، وإن كان في العمق مجرد مدارة لجهل مرعب ما فتئ يكتنز في محيطنا مثل كرات الثلج.