الانقلاب على وزير الآثار المصري

توحي الانتقادات اللافتة التي تعرض لها وزير السياحة والآثار في مصر خالد العناني أخيرا من وسائل إعلام حكومية وخاصة بانقلاب، أو بات مغضوبا عليه، والمديح الذي حصده جراء إتقانه في حفل طريق الكباش بالأقصر وقبله موكب المومياوات قد تبخّر.
يثير الهجوم الإعلامي الذي واجهه العناني أسئلة عديدة حول أسباب صب اللعنات على مسؤول كبير في الدولة فجأة، ولماذا يتعرض لهجوم من قبل وسائل إعلام كانت تعتبره الوزير النموذج في مصر، وهل ارتكب جريمة فساد أو تلقى رشوة خلال الأيام الماضية، ولماذا لم يتم الكشف عنها صراحة؟
تفتح الانتقادات التي تعرض لها الرجل الباب لكسر بعض الممنوعات، فقد تلاشت تقريبا الموضوعات التي يمكن أن تنتقد سياسة وزير أو تصرف مسؤول كبير، فما بالنا بشخصه، وهو ما منح بعضهم ما يشبه الحصانة الإعلامية وعدم الاهتمام بالرد على ما يطرح من أسئلة مشروعة حول قضايا مهمة، ومن هنا تعدّ حالة خالد العناني جديرة بالوقوف عندها وتستحق تحليلا دقيقا، وربما تنطوي على شيزوفرينيا سياسية.
◄ لا يحتاج رئيس الجمهورية في مصر إلى مقدمات لينهي عمل وزير أو مسؤول كبير، وهو ما يجعل فكرة توجيه انتقادات لخالد العناني تمهيدا لإقالته غير صائبة
يقود الاجتهاد إلى جملة من الإجابات التي يمكن اعتبارها بمثابة محددات رئيسية لفهم الدوافع التي أدت إلى الهجوم المفاجئ على وزير كان قبل أيام قليلة يقف بجوار الرئيس عبدالفتاح السيسي في حفل افتتاح طريق الكباش وحظي بإشادات واسعة.
قد يكون الرجل تضخم معنويا بعد حملة الإشادة التي نالها تقديرا لما قام به من جهد أسهم في خروج الحفل بشكل جيد رأت جهات في الدولة ضرورة فرملته، وربما تكون الحملة تمهيدا لإقالته في التغيير الوزاري المنتظر كي لا يبدو الأمر عقابا على إخلاصه، ومن الضروري أن تناله انتقادات عشوائية، لأنها لم تقدم دليلا واحدا على وجود جرم ارتكبه أو خطيئة وقع فيها، كما أن الحملة ظهرت كومضة ثم انطفأت.
لجأ بعض الخبثاء إلى تفسيرات من زمن سابق، مستمدة من الخبرة التي خلّفتها تجربة حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك، فطوال هذا العهد كان يتم الاعتماد على فكرة النجم الأوحد، وهو رئيس الدولة، ولم يُسمح لأيّ شخص أن يتغوّل ماديا أو يتضخم معنويا بموازاته، فجزء مهم من بقاء مبارك ونظامه حوالي ثلاثة عقود قام على الفراغ.
ينطلق الفراغ من فرضية تنطوي على أهمية تجريف التربة السياسية وتخليصها من كل شخص تظهر عليه علامات الكاريزما، فعندما يفكر المواطنون في بديل لا يجدون سوى مبارك، فكل الشخصيات المحيطة به يتم تقزيمها أو ركلها إلى أعلى.
يتذكر المصريون وقت أن تضخم عمرو موسى عندما كان وزيرا لخارجية مصر، لدرجة أن المطرب الشعبي الشهير الراحل شعبان عبدالرحيم قدم أغنية مطلعها “بأحب عمرو موسى وبأكره إسرائيل..” ما جعل اسمه محفورا في الوجدان الشعبي العام، وبصرف النظر عن كون موسى يستحق ذلك أم لا، فبعدها جرى ترشيحه لمنصب أمين عام الجامعة العربية وقضى ثمانية أعوام بعيدا عن الحكومة المصرية.
من أساليب بعض وزراء مبارك ما اعتمد عليه وزير الإعلام الأسبق صفوت الشريف، حيث كان يواجه انتقادات منظمة من حين إلى آخر يشرف عليها بنفسه ليبدو وزيرا غير معصوم وغير محبوب أيضا، مكنته هذه السياسة من البقاء في منصبه نحو عقدين، ولم يسترح بعدها كالعادة بل تولى منصب رئيس مجلس الشورى، حيث أجاد لعبة السلطة وطقوسها ومعاييرها بما ساعده على أن يستمر فيها فترة طويلة.
لا أقول إن هذه التفسيرات تنطبق على حالة خالد العناني، لكن ما ناله الرجل يندرج ضمن عدّاد الانقلابات السياسية التي لا تفسر سوى بأن هناك خطأ ارتكبه عن قصد أو دونه، فالانتقادات العاجلة رسالة لمن تسوّل له نفسه الخروج عن الخط المرسوم.
من تابعوا تصريحات العناني في المناسبات التي بزغ فيها نجمه لم يشعروا أنه تجاوز حدوده السياسية أو نسب الفضل إلى نفسه، حيث كان دبلوماسيا بما يوحي أنه يمتلك حنكة غير خافية في التعامل مع وسائل الإعلام، إلا إذا كان خطأه لم يكن على الملأ، ما استدعى تحذيره من خلال انتقادات عزفت سيمفونية بألحان متشابهة.
هناك من يعتقدون أن توجيه انتقادات لوزير في الحكومة تطور يصلح ليكون مؤشرا على انفتاح سياسي مقبل طال انتظاره، وهناك من رأوا أنها تعكس انقساما سياسيا في التقديرات داخل بعض الأجهزة في الدولة المصرية.
وهناك من ذهبوا إلى أن التركيز على الجانب السياحي يعني أن قرصة الآذان التي تعرض لها لا علاقة لها بالآثار، مع أن هذا القطاع توليه الأجهزة الرقابية جزءا من اهتمامها بعد ارتفاع معدل الكشف عن حالات فساد متعلقة بالآثار والمتاجرة فيها.
◄ الانتقادات التي تعرض لها الرجل تفتح الباب لكسر بعض الممنوعات، فقد تلاشت تقريبا الموضوعات التي يمكن أن تنتقد سياسة وزير أو تصرف مسؤول كبير
تتزايد الأسئلة وتتعدد التفسيرات وسط الغموض الذي يكتنف هذه النوعية من الأحداث، حيث يترك النظام المصري الناس من دون إجابات شافية، وتعد حالة وزير السياحة والآثار كاشفة بشكل واضح عن هذه المسألة التي تتكاتف مع حالة سابقة تتعلق بوزيرة الصحة هالة زايد التي تمكث في منزلها منذ نحو شهرين وقيل إنها طلبت إجازة مرضية، لكن تزامنها مع فضيحة فساد طالت مسؤولين في وزارتها أخرجها من السياق المرضي وتم تعيين وزير التعليم العالي خالد عبدالغفار مشرفا على الوزارة، ولا أحد يعلم هل يعني ذلك تورطها مباشرة، وإذا كانت متورطة فلماذا لم يتم الإعلان؟
يحمل الغموض في بعض القضايا الحيوية إشارة بالغة السلبية للحكومة ومن خلفها النظام برمته، لأن الناس لن يقفوا صامتين طوال الوقت حيث يحتاجون إلى فهم يفك لهم أسرار التخبط الذي يحدث في بعض دواليب الدولة وألغازه وبلا سابق إنذار.
إذا لم تأت الإجابة من قبل أجهزة الدولة المعروفة سوف تتكاثر الاتهامات وتتجاوز شخصية مسؤول رفيع هنا أو هناك وتصل إلى قمة الهرم، أي رئيس الجمهورية، ففي النهاية هو المسؤول أمام المواطنين إذا عجز من هم دونه عن التوضيح قبل أن تتسع أزمات الوزراء وتتحول إلى شرارة نار تحرق عددا كبيرا من أعضائها.
لا يحتاج رئيس الجمهورية في مصر إلى مقدمات لينهي عمل وزير أو مسؤول كبير، وهو ما يجعل فكرة توجيه انتقادات لخالد العناني تمهيدا لإقالته غير صائبة، وذلك كله يصب في صالح التعامل معها على أنها رصاصة لمن يفكر في استثمار شعبيته أو يعتقد أن ذكاءه يمكنه من جلب نجاح للدولة، لكن الرصاصة ارتدت إلى صدر من أطلقها.