الانتخابات البلدية اللبنانية: تململ لا يلامس حدود التغيير

تعد الانتخابات البلدية التي تجري في لبنان هذه الأيام فرصة حقيقية للتعرف على موازين القوى السياسية المختلفة والمتناقضة أحيانا على الميدان. فقد طفت على السطح ظواهر عديدة نتجت عن السلوك الانتخابي للمواطن اللبناني، لعل أهمها اكتشاف تيار غير مرئي، ربما لم يتبلور بعد، يختلف تماما عن التيارات السياسية والمدنية المتفاعلة على الساحة الآن، وقد تبلور ذلك التيار في توجس من المكونات الحالية الملغومة بتيارات طائفية لها ولاءات خارج المنطقة العربية.
الثلاثاء 2016/05/10
بيروت بيتي

بيروت - أبرزت الانتخابات البلدية التي انطلقت محطتها الأولى في بيروت والبقاع عن نزعة تململ من إحكام القوى السياسية سيطرتها على كامل القرار التمثيلي للناس، ولكن من دون أن يتبلور هذا التململ في إطار سياسي أو اجتماعي يضرب سيطرة هذه القوى، بل يسجل فقط ظهور حالات اعتراض طالت سلطة تيار المستقبل في العاصمة، وسلطة حزب الله في مناطق نفوذه في بعلبك وبريتال. كذلك أنتجت هذه الانتخابات تحالفات جديدة، وكشفت عن خواء تحالفات أخرى وخصوصا في الساحة المسيحية، كما كشفت عن عدم قدرة المجتمع المدني على تشكيل بديل.

أبانت انتخابات بيروت عن حلف واضح بين الرئيس سعد الحريري ورئيس مجلس النواب نبيه بري، يعكس صيغ التوافق على موضوع رئاسة الجمهورية حيث أن رئيس المجلس النيابي يدعم ترشيح الحريري لسليمان فرنجية في مواجهة عون.

هذا الحلف المستجد أثبت أن التوافق الذي يضم الثنائية المسيحية العونية القواتية في بيروت، لا يحمل سمات الواقعية وإمكانيات التبلور في صيغة سياسية تنعكس مباشرة في صناديق الاقتراع. ظهر أنه من غير الممكن أن يدعم عون أي حلف بين بري والحريري ولو في سياق توافقي محدد. وكذلك اعتبر الرأي العام المسيحي أن هذا الحلف المسيحي الثنائي قد غلّب الصيغ الحزبية ومتطلبات التوافق على مصالح العائلات.

أدى ذلك إلى توجه الناخب المسيحي إلى الاقتراع لمصلحة لائحة “بيروت مدينتي” المنافسة للائحة التوافق كنوع من إبداء الاعتراض على الثنائية المسيحية التي بدت في مشهدها البيروتي عاجزة عن ضبط مسارات واتجاهات الصوت المسيحي.

مشروع المناصفة الذي كرّسه الحريري كصيغة انتخابية في بيروت بدا وكأنه موجه ضد السنّة ومحرجا للتيارات المسيحية في آن واحد، فقد تشكلت لائحة يقتصر أعضاؤها على السنّة في مواجهة هذا التوجه الذي بدا مخلا بالنسبة إليهم بالتمثيل السنّي الذي يجب أن يحكم السيطرة على كل مقاعد العاصمة.

بديل الحريرية

ظهرت المناصفة الحريرية وكأنها مواجهة مع العائلات المسيحية التي تعتبر أن الأحزاب المسيحية قد سرقت ترشيحها، ومع الرأي السنّي المتشدد الذي يعتبر أن الحريري يهدر حقوق السنّة. بدا حلف الحريري مع جعجع بلا معنى فعلي في العاصمة، وبدت إمكانية التوافق مع عون غير واردة إطلاقا.

وكشف مسار العملية الانتخابية أن الحلف الأكثر متانة والذي تجلى فعليا على الأرض هو الحلف مع بري ومع الأرمن، حيث التزمت أصوات هذين التيارين بلائحة البيارتة المدعومة من الحريري التزاما كاملا، وإن كان الذي قرّر وجهة المعركة فعليا هو الصوت السنّي الذي نجح في تحقيق فوز لافت لصالح لائحة الحريري وإعادة إنتاج زعامته البيروتية.

فشل المجتمع المدني في تشكيل حالة بديلة عما يسميه مناصرو هذا التيار بلوائح “السلطة” يعود إلى عدة أسباب، لعل أهمها أنه لم يستطع إظهار نفسه في هيئة تيار مستقل ومدني فعلا، بل بدا وكأنه فقط تيار مناهض للحريرية ما سهل نسبته إلى الفريق المعادي للحريرية، وخصوصا أن بعضا من أبرز عناصره كانوا مرتبطين بالحريرية سياسيا وإعلاميا.

انتخابات بيروت تبين حلف واضح بين الرئيس سعد الحريري ورئيس مجلس النواب نبيه بري، يعكس صيغ التوافق على موضوع رئاسة الجمهورية

وساهمت سذاجة بعض الطروحات التي نادى بها بعض المرشحين مثل طرح إلغاء الأحزاب في إضعاف الانحياز الى هذا الخيار الذي اعتبره أحد المحللين السياسيين يمثل تيارا لا يمكنه أن يوجد ولا أن ينمو إلا في ظل حالة متسامحة ومتفهمة وغير قمعية كالحالة الحريرية، وتاليا فإن حالة المجتمع المدني هي حالة تستفيد من وجود الحريرية في حين أنها لا يمكنها أن تظهر بالشكل التي ظهرت فيه، ولا التعبير عن نفسها في ظل تيارات راديكالية ومسلحة. من هنا فإن مجال ظهورها الطبيعي هو في كنف تيار لا تحكمه الصيغة الطائفية وأقرب إلى الليبرالية مثل تيار المستقبل.

رئيس لائحة “بيروت مدينتي” إبراهيم منيمنة يعتبر أن لائحته “لم تنجح في الانتخابات، ولكنها نجحت في تحريك المياه الراكدة وفي خلق استقطاب كبير وفي التأسيس لحالة تجسدت بنجاح الحملة”.

يرفض منيمنة رد هزيمة لائحته إلى العداء للحريرية ويؤكد “نحن لم نكن ضد الحريرية، نحن كنا مع تحييد العمل السياسي عن العمل البلدي فالعمل البلدي وصل إلى حالة من الشلل بسبب التدخلات السياسية. نحن نحتج ضد نتيجة هذه التدخلات”.

ويعتبر المختار البيروتي محمد عانوتي الذي جدّدت له الانتخابات الحالية “أن المخترة هي المفتاح الذي يسمح بإجراء الانتخابات البلدية والنيابية، وعلاقة المخاتير مع الناس هي علاقة مباشرة يسود فيها طابع المعرفة الشخصية، لذا فإن الأجواء التي تسود فيها تبدو مختلفة عن سائر أنواع الانتخابات”.

وبدوره، يعتبر سليمان جابر، من لائحة البيارتة، أن “المعنى الذي يتّخذه فوز اللائحة هو إيمان الناخبين في بيروت بخيار المناصفة، ما سيسمح لنا باستثمار فوز هذا الخيار في تفعيل مسيرة الإنماء، حيث سيتم وضع جدول زمني للمشاريع التي وعدنا الناخبين بتنفيذها والحرص على إنجازها”.

لوائح الثنائية

ربما يكون من المفيد إجراء مقارنة بين طبيعة الاعتراض على المستقبل وتلك التي سادت في مناطق نفوذ حزب الله، والتي حرص الحزب عبر لسان نائب أمينه العام نعيم قاسم في مؤتمر صحافي عقد مؤخرا على اعتبارها حالة تتنافس على الخدمة العامة، ولا تخالف الحزب في توجهاته ومشاريعه الكبرى.

إبراهيم منيمنة: لائحة بيروت مدينتي لم تنجح في الانتخابات لكنها نجحت في تحريك المياه الراكدة

وتبدو درجة الإحكام التي يحاول قاسم أن يوحي بها غير دقيقة ولكن لم يظهر كذلك ما يشي بالعكس، فلم ترفع في الانتخابات البلدية في مناطق الحزب شعارات ضد خيارات الحزب السياسية، ولم تصدر اتهامات مماثلة لتلك التي وجهت لسعد الحريري وللحريرية والتي تسفه تاريخها وخياراتها. من هنا يمكن وصف حركة الاحتجاج في المناطق الشيعية بأنها تهدف إلى الحد من الإكراه المطلق الذي تمارسه الثنائية الشيعية على الجمهور الشيعي، وإجبارها على سماع صوت العائلات، ومراعاة خصوصياتها وليس أكثر من ذلك.

بشكل آخر يمكن القول إن من ترشحوا ضد لوائح الثنائية يريدون انتزاع مكاسب منها ما يعني بقاء الاعتراف بمرجعيتها، وهذا يدل على أن الروحية المسيطرة على الانتخابات البلدية في مناطق نفوذ حزب الله لا تعكس احتجاجا فعليا عميقا، إنما عمليات إعادة تمركز داخل التركيبة نفسها.

ما ظهر على الساحة المسيحية يكاد يكون الأبرز، إذ ثبت تهاوي الثنائية المسيحية وضرورة تحولها إلى ثلاثية في زحلة كي تضمن الفوز ضد لائحة سكاف بشكل خاص، حيث نجح الحلف الثلاثي العوني، القواتي والكتائبي في الفوز بالمعركة التي خلفت جروحا قاسية في الساحة المسيحية، وكرست انقساما لافتا بين العائلات وبين الأحزاب، وأسست حلفا مؤقتا ومرحليا ولحظويا لا يمكنه إنتاج خطاب سياسي مسيحي موحد. الخلافات على العناوين الكبرى بين مكونات هذا التحالف والتي ظهرت في عدد من الملفات الأساسية، لا يمكن أن يشكل الحلف المؤقت ضد العائلات مؤشرا على زوالها، كما أن الخلاف بين هذه القوى مجتمعة أو بين الثنائي العوني القواتي وبين العائلات تجلى في أكثر من مكان، وأدى إلى خلق أزمة صراع مسيحي مسيحي جدية لا تشهد مثلها الساحة الشيعية ولا الساحة السنية.

والنتيجة التي يمكن أن نخرج بها على خلفية أول اقتراع تشهده البلاد منذ ست سنوات، والذي تم في مولحة أولى في بيروت والبقاع، وينتظر أن تمتد إلى مناطق لبنانية أخرى خلال الأسابيع القليلة المقبلة، هي أن سلطة الأحزاب اهتزت ولم تسقط، ما يعني سياسيا وربما إنمائيا كذلك بقاء الأمور على ما هي عليه إلى أجل غير مسمى.

كاتب لبناني

6