الانتحار رقصا

في المرآة لا شيء يعجبني، التناقض بين جسم يزداد رشاقة مع الأيام ووجه يزداد ترهلا أمر سوريالي وفي غاية الالتباس.
الخميس 2019/02/21
الصراخ رقصا يمزق الفضاء والعضلات، يكسر الصمت والعظام

أرقص بلا توقف هذه الأيام، على موسيقى ومن دون موسيقى، في البيت والشارع والحدائق العمومية. أرقص وأنا أطبخ، وأنا أنظف البيت، وأنا أتنقل من مكان لمكان أجمع أغراض الأطفال ولعبهم من الأركان والزوايا أو وأنا أضع المشتريات في الثلاجة. أرقص كأن جنيا يتملكني أو كأنني اكتشفت فجأة أن لي جسدا.

في البدء أرجعت الأمر لحالة من الفرح المفاجئ الذي يحدث أن ينتابنا لأننا بخير أو لأننا نحيا وكفى، فرح بالحياة نفسها كأن تصحو لتكتشف أن ضوء النهار في حد ذاته عطية من عطايا الكون العظيمة، لكن الحالة استمرت أطول مما يجب وزادت شراستها مع الوقت حتى انتهت إلى آلام متفرقة في المفاصل والعظام وكدمات في الجسم.

في المرة الأولى التي دخلت فيها المستشفى بسبب رقصة عنيفة أصررت فيها على تحريك صدري وخصري كما تفعل الراقصات، شعرت أن شيئا غريبا غير مفهوم يقف وراء جنون الرقص الذي انتابني، لكن الطبيب طمأنني قائلا إن الأمر عادي وإنني لا بد أتيت بحركة مفاجئة وعنيفة أرغمت رقبتي على الالتواء أياما.

رقبتي! أتساءل أحيانا كيف ظلت هذه الرقبة مستقيمة رغم السقطات والانكسارات، ورغم أن كل شيء قد انكسر فجأة وتكومت عظامه فوقنا كأنها معروضة في متحف.

في المرة الثانية عندما التوت قدمي، واضطررت لجرها خلفي عدة أيام كما تجر الجثث، توقفت للتفكير. قلت لنفسي إن هذا ليس رقصا، رغم أنه يبدو كذلك، ورغم أن أجنحتي تتطاير وشعري يحلق وجسمي يتمايل تماما كما يفعل الراقصون. أوقفت الموسيقى التي تسحبني من رقبتي في كل مرة، عدة أيام وعانيت من أعراض انسحاب مؤلمة لم أكن آكل أو أشرب معها تقريبا.

ذهبت الموسيقى فذهب كل شيء، ولم أكن أسمع سوى صوت بكائي الداخلي الذي علا فجأة كأن أحدهم ضغط على الزر ليرفعه، لكنني أصررت هذه المرة على فهم ما يحدث، وكان يجب أن يتوقف الرقص.

اعتبرت نفسي دائما امرأة رياضية، رغم أن الحمل والولادة أفقداني الكثير من الرشاقة والخفة، لكن حتى في أشد الأوقات قتامة وعندما ترهل جسمي وتكومت كتل الشحم في بطني وأردافي، لم أفكر في الانتحار رقصا كما أفعل هذه الأيام.

في المرآة لا شيء يعجبني، التناقض بين جسم يزداد رشاقة مع الأيام ووجه يزداد ترهلا أمر سوريالي وفي غاية الالتباس. بإمكان الرقص أن يمنحنا جسما رشيقا، لكنه لا يستطيع أن يعيد لنا وجهنا الطفولي، وملامحنا الوديعة. ولأن الموسيقى ذهبت فقد ظهرت آثار البكاء واضحة أيضا، وزادت الأمور سوءا.

ثم فجأة بدا وكأنني أفهم. لم يكن رقصا بقدر ما كان صراخا: جسد يصرخ ضد الزمن، يستنجد وهو يجر إلى حتفه. جسد يقول “لا” بكل العنف والقسوة اللذين يملكهما.

الصراخ رقصا، هو ما كنت أفعله طوال هذا الوقت. صراخ يمزق الفضاء والعضلات، يكسر الصمت والعظام، يلوي الزمن والأقدام ويحطم الجدران وحدود الجسد. كنت ألقي بقدمي إلى الخلف كأنني لا أريدها أن تعود، أرفع ذراعيّ وليس في نيتي أن أستعيدهما، أدق على الأرض كأنني أصحي الموتى وأدعوهم ليلتحقوا بحفلة الرقص، أدعوهم للمشاركة في صرخة طويلة تمزق الكون.

لو كان بمقدوري أن أمزق هذا الجسد لفعلت، لو كان بمقدوري أن أحوله إلى هواء أو فراغ تام لما ترددت. لو أنني أملك القدرة على إذابته وتحويله إلى نهر يجري. لو أنه يستجيب.

قبل الصرخة وبعدها كأن الجسد، كومة الوحل التي نحملها على أكتافنا منذ أول الخلق. خلق الجسد ليشدنا إلى الأرض، وخلقت الروح لتحلق بِنَا في السماء. وكلاهما يقترب من الآخر ولا يكونه. لا الجسد يتحول روحا ولا الروح تصبح جسدا، بإمكانهما فقط أن يحاولا. وكل محاولة لتحرير الجسد من التراب هي محاولة لفكه من أسره، من مصيره الذي يزداد قتامة، لكنها تظل محاولات بائسة تنتهي بكسور في كل مكان، وبكدمات تلطخ الروح والجسد معا.

21