الالتفاف على الديمقراطية التشاركية في تونس

الجمعة 2016/06/03

الديمقراطية التشاركية هي المفهوم السحري للمرحلة السياسية القادمة في تونس. وهذا المفهوم يعني تركيز خيار اللامركزية كما نص على ذلك دستور 2014، والتي تعني أيضا أن يحكم المواطنون أنفسهم بأنفسهم لا عن طريق الانتخاب الحر والمباشر والشفاف، بل كذلك عن طريق مشاركة المواطنين غير المنتخبين للمنتخبين في تسيير الشأن اليومي للمحلية والجهة والإقليم.

ويكون ذلك عن طريق المجتمع المدني المتكوّن أساسا من جمعيات ومنظمات ونقابات. وهو ما يسمّى في العرف التشريعي الذي قامت عليه روح الدستور التونسي مشاركة المواطن في الحكم المحلي ضمن مبدأ الديمقراطية التشاركية، حيث سيكون المواطن عبر ممثليه من المجتمع المدني قوة اقتراح وتعديل وتوجيه ومتابعة ومراقبة. ويكون القضاء الإداري والمالي قريبا منه حتى يتلقى شكاواه ضد السلطة المحلية متى رأى منها انحرافا أو استبدادا بالـرأي أو انحرافا عن الديمقراطية التشاركية ويتعامل معها سريعا لإيقاف الانحراف.

ولكن هذا الحلم بالديمقراطية التشاركية مهدد بخطرين وبجملة من الإكراهات. أمّا الخطـران فهمـا اللامحورية أوّلا، والمحاصصة الحزبية والتقاسم الترابي بين أحزاب الائتلاف الحاكم الأربعـة ثانيـا. ذلك أنّ سلطة اللامركزية وضع لها الدستور سلطة موازية هي اللامحورية والتي تعني سلطة المركز على الجهة عبر هيئات تنفيذية قائمة اليوم وستظل قائمة بعد الانتخابات المحلية والجهوية وتركيز السلطة المحلية المنتخبة.

فاللامحورية تقتضي تمثيل المركز في المحلية والجهة أي أن السلطة التنفيذية المركزية ستكون ممثلة في شخص المحافظ والذي مكنه قانون الجماعات المحلية، الذي أعدته الحكومة ويناقشه مجلس نواب الشعب هذه الأيام، من سلطات عليا تتجاوز سلطات المجلس المحلي والجهوي المنتخب.

من ذلك أن المحافظ يمكنه أن يحلّ المجلس المنتخب بتقرير يرفعه إلى وزير الداخلية. كما أن أجهزة السلطة التنفيذية ستظل تحت إمرته وإشرافه المباشر. وهو ما يجعل السلطة المحلية والجهوية المنتخبة مقطوعة المخالب والأنياب، ويجعل قراراتها ومشاريعها تنتظر على مكتب المحافظ حتى يصلها الدور لينفذها أو يعلقها أو يستشير في شأنها المركز أو يرفضها.

وهناك مشكلة أخرى أعقد متصلة باللامحورية وبالمحافظ، فلو افترضنا أن المعارضة فازت بمجلس محلي وحتى جهوي وكان المحافظ من الائتلاف الحاكم، فكيف ستكون علاقته بالمجلس المنتخب؟ فربما سيعطّل عمله وسيشل نشاطه ولن يكون متجاوبا معه لا سيما في ظل الاختلاف البيّن لبرامج المعارضة عن برامج الائتلاف الحاكم. وهذا التعطيل يمكن أن يكون مبررا للمحافظ حتى يرفع تقريره القاضي بحل المجلس المنتخب.

الخطر الثاني الذي يهدد اللامركزية الذي سميّناه المحاصصة الترابية لأحـزاب الائتلاف الحاكم الأربعة، عاينه الرأي العام والمجتمع المدني في تونس في البلديات جديدة المنشأة قصد تعميم النظام البلدي. فهذه البلديات بنيت على قاعدة بيانات الانتخابات الأخيرة. بمعنى أن أحزاب الائتلاف الأربعة تقاسمت الثمانين بلدية الجديدة بحسب نتائجها في انتخابات 2014، وحيث تأكدت لها أغلبيتها ورصيدها الانتخابي أقِرت البلدية.

وهذا خطير لا سيما أن أغلب البلديات المحدثة لا تتوفر على مقرات ولا إدارات ولا معدات لوجيستية ولا مبرر لإنشائها إلا الرصيد الانتخابي لأحزاب الائتلاف الحاكم الأربعة. وهذه الطبخة تفقد الرأي العام والمجتمع المدني والسياسي الثقة في الحكـومة صاحبة القـرار في اختيـار البلديات الجديدة، وتجعلها رهينة تكتيكات الأحزاب التي تشكلها وتفقدها مصداقيتها الوطنية.

أما الإكراهات التي تعطل تركيز الديمقراطية التشاركية في تونس فهي ذات ثلاثة أبعاد؛ الأول تقني مفـاده أنـه لم يتم بعد اتخـاذ القرار في مـا إذا كـانت الانتخابات المحلية والانتخابات الجهوية ستجريان في مناسبة واحدة، أم سيتم الفصل بينهما في مناسبتين. ولكل خيار ما له وما عليه.

كما لم يتم الفصل في رئيس البلدية إن كان سيكون رئيس القائمة الفائزة بالضرورة مهما كانت أغلبيته، أم سيقع انتخابه من قبل أعضاء المجلس المنتخب علما وأن مقترح الحكومة هو الأول. وهو ما ترفضه المعارضة والمجتمع المدني باعتباره سيشل عمل رئيس البلدية خاصة إذا كانت أغلبية قائمته الفائـزة ضعيفة، ذلك أن القائمة يمكن أن تفوز بمجلس بلدي بأغلبية خمسة عشر بالمئة من أصوات الناخبين مثلا.

البعد الثاني زمني متصل بصعـوبة إجراء الانتخابات المحلية والجهوية في الموعد الذي تقترحه الهيئة العليا المستقلة للانتخابات وهو 26 مارس 2017، إذ أن مناقشة القانون الانتخابي وقانون الجماعات المحلية قد تستمر إلى ديسمبر المقبل باعتبار الحاجة الأكيدة إلى توافقات الكتل البرلمانية حتى لا تلجأ المعارضة إلى الطعون الدستورية، وهو ما يعيد النقاش إلى نقطة الصفر دائما.

ومن الإكراهات الحاسمة في اتجاه تعطيل تركيز الديمقراطية التشاركية هو عدم تركيز فروع للمحكمة الإدارية ولدائرة المحاسبات في الجهات، وهي المنوطة بعهدتها عملية المراقبة للمجالس المنتخبة باعتبارها جهات التقاضي التي حددها الدستور التونسي لكل ما يتعلق بالحكم المحلي. فمجلس محلي أو جهـوي منتخـب بلا سلطـة رقابية قضـائية مستقلة، قـد يجعله تحت سلطة إشراف مباشرة لممثل السلطة المركزية ألا وهو المحافظ. وهو ما سيفرغ مبدأ الديمقراطية التشاركية من محتواه، ويجعله مبدأ شكليا على شاكلة ما كان موجودا في عهد الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي.

ومن الإكراهات بل من المخاطر الكبرى التي تهدد بنسف الديمقراطية التشاركية في تونس ما تعلق بالجمعيات أو بجانب مهمّ من المجتمع المدني الذي أغرقته حركة النهضة وتوابعها بالجمعيات الخيرية وبالجمعيات القرآنية وما دار في فلكها. فيقدر الخبراء أن الذراع الجمعياتية للنهضة تتجاوز 18 ألف جمعية ستكون موزعة على 350 بلدية، وهو ما يعني أن لها معدّلا يفوق الخمسين جمعية في كل بلدية ستشارك في الحكم المحلي.

والصورة الحاصلة ستكون ديمقراطية تشاركية شكلية تسيطر عليها النهضة أولا، ونداء تونس ثانيا. فالبلدية ستتألف من مجلس محلي منتخب ومجتمع مدني من نفس اللون في الغالب. وستكون هناك محاصصات في تقاسم المجالس البلدية بحسب مناطق النفوذ بين أحزاب الائتلاف الحاكم. وسيوضع الشعب التونسي أمام تبريرات فجّة من نوع هذا حكم الصندوق وهذه نتيجة الانتخابات. والحال أن إرادة الشعب قد تمّ توجيهها والتلاعب بها كما أوضحنا.

وبذلك سيعود زمن بن علي من النافذة وعبر الانتخابات الحرة الشفافة، وبإرادة كاملة من حركة النهضة أولا وشريكها نداء تونس ثانيا.

كاتب وباحث سياسي تونسي

9