الاقتصاد الرقمي والذكاء الاصطناعي ونفي الإنسان

استبشرت البشرية خيرا بالتطورات التكنولوجية، خاصة التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي، ولكن على عكس ما هو متوقع، رغم الزيادة الهائلة في الثروة (22.5 ضعفا لمعدل زيادة سكان الأرض) فإن الجانب المظلم من تنبؤات مالتوس قد تحقق لينتشر الفقر وتعم الحروب والمجاعات.
لم تعرف البشرية يوما مثل هذا القدر من الخوف وعدم اليقين، حيث يعاني ستة من كل سبعة أشخاص من الشعور بعدم الأمان طبقا لتقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الصادر في فبراير 2022.
عنونت الأمم المتحدة تقريرها عن التنمية البشرية في العالم لعام 2022 بـ”زمن اللايقين وحياة بلا استقرار”. إنه عنوان يقرع جرس الإنذار اُسْتِهلّ بعبارة تقول “عالمنا اليوم تحدق به المخاوف”، وهو ما يرمز بكثافة إلى خوف البشرية في حقبة الأنثروبوسين وطغيان التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي.
هناك شعور مقلق ومتنام بأن ما كان يتوفر للبشرية قبل قرون قليلة من سيطرتها على حياتها آخذ اليوم في التلاشي، فيما نحن نعيش الآن حقبة أصبح فيها قلة من البشر، من دون ضابط ولا رادع، هم المحرك الرئيسي للتغير العالمي البيئي منه والبيولوجي والتكنولوجي، الاجتماعي منه والاقتصادي. وكلما توغلنا في عمق هذه الحقبة كلما شهدنا المزيد من اللايقين وعدم الاستقرار وكأن الأرض تميد من تحت أقدامنا.
قبل نحو ثلاثة عقود، وتحديدا في سبتمبر 1995 اجتمع ثلة من أثرياء العالم مع حفنة من السياسيين الذين تربعوا على منصة قيادة العالم أمثال ميخائيل غورباتشوف وجورج بوش وجورج شولتس وزيغنيو بريجينسكي في فندق فيرمونت الفاخر الذي يقف على مرتفعات نوب هيل في وسط مدينة سان فرانسيسكو ومعهم نخبة من الأكاديميين ليناقشوا خطر تزايد أعداد سكان الأرض بمعدلات تفوق طاقتها على التحمل والسبل الكفيلة بمواجهة “القنبلة السكانية” التي يمكن أن تنفجر في وجه الجميع وتقضي على كافة أشكال الحياة على الأرض كما يزعمون.
في الاجتماع المذكور سأل مدير الجلسة البروفيسور راستم روي من جامعة بنسلفانيا جون جيج مدير شركة الكمبيوتر الأميركية العملاقة ميكروسيستمز بصفته أحد المشاركين: كم لديك الآن يا جون من الموظفين العاملين في شركتك، وكم تحتاج منهم فعلا في المستقبل القريب لأداء نفس المهام بنفس الإنتاجية والكفاءة؟ فرد عليه هذا الأخير قائلا لديّ الآن 16000 موظف ومعظم هؤلاء لا حاجة لي بهم بعد اليوم ويمكنني الاستغناء عنهم، ما عدا قلة ضئيلة منهم لا تتجاوز أصابع اليدين.
ولإظهار تلك النخبة المحظوظة المجتمعة في قاعة فيرمونت الفاخرة صفات الرحمة وسمو الأخلاق والمنطق العقلاني، فيما هم يتأهبون لحبك التبريرات طبقا للمنطوق المالتوسي والنزعة الأنانية الشرهة في الخلاص من فائض السكان غير المرغوب فيهم، والمقدر بثلاثة أرباع سكان العالم، لتركيز المزيد من الثروة والسلطة في أيديهم، صكّ زيغنيو بريجينسكي مصطلح الحلمة المسلية (Titty – tainment) كناية عن رأفة مزعومة بكوكب الأرض مجبولة من كلمتين إنجليزيتين (Tits) الحلمة و(entertainment) التسلي. وهي إشارة إلى مركب ممزوج من التسلية المخدرة والمعونات الغذائية الفائضة عن حاجة السوق والمكدسة في مخازنهم لإبقائهم مؤقتا على قيد الحياة، حتى يأتي دور قواعد الضبط الإيجابي التي صاغها توماس مالتوس في نظريته للسكان فتتولى عملها في التخلص منهم.
وضع القس مالتوس في نظريته للسكان التي نشرها عام 1798 قاعدتين في مواجهة معضلة سكانية مخيفة تتجاوز فيها الأفواه ملاعق الطعام بحسب تعبير بوشهلز، وهو تعبير عن فرضيته بأن السكان يتكاثرون بمتوالية هندسية مقابل متوالية حسابية لنمو الغذاء والموارد الضرورية الأخرى لحياة الإنسان. أطلق على الأولى قواعد الضبط الإيجابي والثانية قواعد الضبط الوقائي، وكلاهما قاعدتان تكبحان النمو السكاني الـذي يتخطى نمو الموارد الاقتصادية.
تتكون قواعد الضبط الإيجابي من موانع تلقائية تولدها بدرجة أساسية قوى الطبيعة الأم ورذائل أنظمة الحكم الفاسدة والشريرة من شأنها زيادة معدل الوفيات. فالحروب والمجاعات والأوبئة والأمراض الطبيعية وتلك المصنعة معمليا هي أمضى أسلحة الطبيعة ورذائل البشر “لتحرير الأرض من فائض السكان”.
أما قواعد الضبط الوقائي فتتمثل في تلك الكوابح العقلانية التي من شأنها تخفيض معدل المواليد عبر تأخير سن الزواج ورفع مستوى معيشة السكان وتعليمهم وتثقيفهم وتوسيع نطاق ونوعية مشاركتهم المهنية والوظيفية، وتصميم برامج لتخطيط الأسرة. كما ظهرت لاحقا عدة نظريات موازية تناقش علاقة الاختلال بين الموارد والسكان من أبرزها نظرية الحد الأمثل للسكان (Optimum Population) كان أبرز روادها آدم سميث، ألكسندر كارسندرز وألفرد سوفي. غير أن نظرية مالتوس ومثيلاتها أثبتت للجميع عبر قرون لاحقة من تطور القوى الإنتاج خطأها وضلالها، ما عدا قلة قليلة من المالتوسيين الجدد الذين مازالوا يبحثون عن ذرائع للخلاص مما يسمونه بفائض السكان.
20
في المئة فقط من سكان العالم يمكنهم العمل والحصول على دخل، والباقون فائضون عن الحاجة
كتاب فخ العولمة الذي صدرت طبعته الأولى بالألمانية في برلين عام 1996 يجمل فيه كاتباه مخاوفهما من رقمنة الحياة وطغيان الذكاء الاصطناعي على حياة الإنسان بما يفضي إلى نفي الوجود البشري الذي تقوده كبرى الشركات العالمية في مسعاها لخفض التكاليف ومراكمة المزيد من الأرباح والثروة والسلطة. فقد تنبأ الكاتبان بأنه في القرن الواحد والعشرين سيكون هناك 20 في المئة فقط من سكان العالم الذين يمكنهم العمل والحصول على دخل والعيش في رغد وسلام. أما الباقون فيمثلون السكان الفائضون عن الحاجة الذين لا يمكنهم العيش إلا من خلال الإحسان والتبرعات والإغاثة الإنسانية لينتهي بهم المطاف في (مقالب قمامة التأريخ). ليست تلك مجرد افتراضات أو أوهام، بل حقائق تسندها المعطيات الإحصائية والوقائع من كافة قارات العالم.
ولحظة صدور كتاب فخ العولمة كان هناك 358 مليارديرا يمتلكون ثروة تضاهي ما يملكه 2.5 مليار من سكان المعمورة أي ما يزيد عن نصف سكان الأرض في منتصف تسعينات القرن الماضي، الذين نُصنِّفهم بمليارات القاع من البشر بحسب تعبير باول كولييه. كما أن مجموعة دول العشرين الأغنى في العالم كانت تستحوذ على 85 في المئة من الناتج الإجمالي العالمي وعلى 84 في المئة من التجارة العالمية ويمتلك سكانها 85 في المئة من مجموع مدخرات العالم.
هـذه النسب حتما قد تغيرت اليوم بشكل أكثر سوءً ودرامية. واليوم يبلغ عدد سكان الأرض نحو 8 مليارات إنسان وهو يساوي عشرة أضعاف تعداد سكانها قبل 270 عاما، مع بداية بزوغ فجر الرأسمالية الصناعية عام 1750. ذلك يعني أن المتوسط السنوي لمعدل نمو السكان خلال الفترة المذكورة لم يتعدّ 0.8 في المئة. بيد أن تطور قوى الإنتاج التي أحدثها الإنسان وما رافق ذلك من تطور هائل في التقانة والتكنولوجيا قد دحض فرضيات مالتوس وأحال على نظريته التراب. إذ ارتفعت قيمة الناتج الإجمالي العالمي إلى أكثر من 100 تريليون دولار بنهاية عام 2022، أي أنه تضاعف بنحو 225 مرة عما كانت عليه قيمته عام 1750، بمتوسط معدل نمو سنوي يزيد عن 2 في المئة مقابل 0.8 في المئة لنمو السكان.
على الرغم من كل هذه الزيادة الهائلة في الثروة العالمية بمقدار يزيد بنحو 22.5 ضعفا عن معدل زيادة سكان الأرض خلال نفس الفترة فإن الجانب المظلم من تنبؤات مالتوس قد تحقق، حيث الفقر والحروب والمجاعات والأوبئة والأمراض التي تحصد حياة عشرات الملايين من البشر وتشرد مئات الملايين منهم من ملاذاتهم الآمنة وتنتشر على نطاق واسع في كل أرجاء كوكب الأرض وخاصة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
إن ما يحدث من هذه الكوارث في الواقع ليس إلا بفعل الاختلالات الحادة بين نمو قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، وهو ما وسع فجوة الثروة والتنمية بين سكان العالم على الصعيد العالمي والإقليمي والقطري على حد سواء.
يكفي للدلالة على سوء توزيع الثروة بين سكان العالم الإشارة إلى أن عشرة أشخاص فقط من أثرى أثرياء العالم بلغت قيمة ثروتهم بنهاية عام 2022، 1174 مليار دولار وهو مبلغ يفوق ثروة 700 مليون شخص من سكان البلدان النامية. وطبقا لآخر تقرير نشرته منظمة أوكسفام البريطانية، استحوذت نسبة 1 في المئة من أغنى أثرياء العالم خلال العامين الماضيين على ما يقرب من ضعف ما يمتلكه باقي سكان الأرض. وجاء في التقرير الذي يحمل عنوان “البقاء للأغنى” أن هذه النسبة الضئيلة من سكان الأرض استحوذت في عام 2020 على ثلثي ثروة سكان الأرض بمبلغ قدره 42 تريليون دولار. وهذا يؤكد مقولة المهاتما غاندي “تُقدّم الأرض ما يكفي لتلبية حاجات كافة البشر، ولكن ليس بما يكفي لتلبية جشع كافة البشر”.
سبق للفيلسوف الألماني كارل ماركس أن حاجج مفكري عصره بأن أكبر خطر يتهدد النظم الاجتماعية والسياسية ليس بالضرورة عدم المساواة فحسب، ولكن أيضا عملية تغريب الكائن الإنساني بحيث يتم فيه سلخ العامل كإنسان عن عملية الإنتاج. ولم يكتف هذا النظام الاقتصادي بالحفاظ على هذه المستويات من التغريب، بل مع تطوره ودخوله مراحل متطورة من العولمة المحتومة أضاف شكلا جديدا وعميقا من الاغتراب الجغرافي والثقافي والأخلاقي والفصل المادي بين أولئك الذين يتربعون في القمة وأولئك الـذين يقبعون في القاع.
ليس من قبيل المصادفة أن يتم تداول فيديو شهادة الاستماع في منظمة عدل الطبيعة الدولية (International Tribunal for Natural Justice) في وسائل التواصل الاجتماعي في نوفمبر 2019 الذي شكل صدمة للكثيرين في جميع أصقاع الأرض. يتلخص محتوى هذا الفيديو بدعوة البعض من أثرياء العالم إلى التخلص من 3 مليارات من البشر بوصفهم عبئا على كوكب الأرض، بالرغم من تشكيك كبريات الصحف العالمية بالشاهد وشهادته. (أشار تقرير رويترز لرصد الحقائق أن شخصا غير معروف نسب المقولة لبيل غيتس ولكن المعلومة غير صحيحة – المحرر). ولكن كما يقول المثل “لا دخان من دون نار”.
10
أشخاص بلغت ثروتهم عام 2022، 1174 مليار دولار وهو مبلغ يفوق ثروة 700 مليون شخص
يبرهن جوزيف ستيغلتز، الاقتصادي الأميركي الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2001 في كتابه “ثمن اللامساواة”، أن معظم الدخل عند القمة يعود إلى الريع الذي ينقل الثروة من القاع والوسط إلى القمة، مما شوّه السوق لمصلحة البعض على حساب البعض الآخر. ويضيف أن النظام الاقتصادي الذي لا تعود فوائده على غالبية المجتمع هو نظام فاشل. يشاطره هذا الرأي كبار الاقتصاديين أمثال آمارتيا سن، جفري ساكس، باول كروجمان، باول كولييه، وباتريك دينين وآخرين كثر.
وعلى خلفية اللايقين وعدم الاستقرار مما يخبئه المستقبل لدى من يتمتعون بالثروة والسلطة والنفوذ، بالامتيازات والوسائل اللامحدودة لحماية أنفسهم حماية خاصة مبالغا في أمرها، يسعون لتحويل عبء هذه الحقبة الزمنية الحرجة على مليارات القاع. ولا يقتصر الأمر، كما يقول تقرير التنمية البشرية، على أن “الأعاصير تزداد ضخامة وفتكا بفعل تأثير البشر على البيئة، بل يبدو كما لو أن مساراتها المُدمِّرة تُوجّه عمدا بفعل خياراتنا الاجتماعية نحو الفئات الأكثر هشاشة بيننا”.
إن عالما مجردا من المثل والأخلاق يتسم بعولمة الحياة ورقمنتها والتنافس الاقتصادي الشرس طبقا لقوانين السوق يفرز بلا رحمة ولا شفقة خاسرين كثرا وأقلية رابحة، إنها حقبة عار الجوع كما أطلق عليها ديفيد ريف. الربح فقط هو ما تمجده السوق وتهتم به، والإنسان من وجهة نظر السوق ليس أكثر من مجرد مستهلك للسلعة وعامل من عوامل إنتاجها، فإن لم يقدر على الدفع أو يعجز عن العمل فعليه أن يتنحى عن الطريق نحو مصير مجهول. وقد علّق باول سامولسن الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد على ذلك بالقول “السوق يقظة بشأن الكفاءة عمياء تجاه العدالة”. إن ترتيبات السوق هذه قد دحرت السياقات الأخلاقية والاجتماعية، الدينية والثقافية خارج النظام الاجتماعي ومنعت من إدراك تغليب الكفاءة الاقتصادية على حساب العدالة الاجتماعية، مما يقود في الخاتمة وبعنف إلى ضرب النظام الاجتماعي وسحق الأسرة والمجتمع.
تكثر الوعود الواهمة والمضللة في الأدبيات الاقتصادية بتحقيق الرفاه والرخاء الاقتصادي والاجتماعي للجميع والسيطرة على قوانين الطبيعة وتسخيرها لمصلحة الإنسان، وتزداد قائمة المنشورات وتتسع التي تروج للذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الرقمية من دون ضوابط ولا قواعد، فيما تعمل التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي اليوم عن وعي وعمد على تحويل البشر عبيدا للآلة ولقلة مختارة وتسرّح الملايين من أعمالهم.