الاقتراض الصعب و"المرابي" الصيني

دول عديدة ترى في الاقتراض حلا لمشاكلها الاقتصادية تقع بين فكي رحى صندوق النقد وما يفرضه من إجراءات تقشفية وبين {المرابي} الصيني الذي يعرف كيف يسترد أمواله وهو مبتسم لدائنيه.
الجمعة 2023/07/07
زمن المساعدات بلا شروط انتهى

تعاني الكثير من الدول النامية من الإسراف في الاقتراض وتراكم الديون وزيادة أعبائها من قبل صندوق النقد الدولي، ما يجعل إمكانية السداد صعبة في المستقبل، وبدأت دول مثل باكستان والأرجنتين تواجه أزمة في هذه المسألة فرضت على الصندوق أن يظهر مرونة نسبية كي لا يفقد عرشه بعد أن دخلت الصين كمنافس قوي له.

تستريح الكثير من الدول النامية في التعامل مع بكين في مجال الإقراض، وتعتقد أن القروض والمساعدات المقدمة من قبلها أقل قسوة وفائدة من الصندوق لمجرد أنها متعددة وتتبع طريقة ناعمة تشبه “المرابي” الذي يمنح أموالا طائلة لدائنيه سريعا، لكنه يضع ضمانات تمكنه من استرجاعها أضعافا بعد ذلك.

أصبحت المغريات التي تقدمها الصين للدولة المدينة عديدة ومتنوعة، وتتناسب مع أنظمة الحكم فيها التي تريد قروضا سخية وعاجلة وآليات مريحة للسداد دون اعتداد بقيمتها والمتاعب الاقتصادية والسياسية والأمنية التي يمكن أن تتسبب فيها لاحقا.

تتسلل الصين عبر طرح مشروعات مغرية وتلجأ إلى أشكال غير عادية من الشروط، وقد تبدو أقل وطأة مما تحويه روشتة صندوق النقد الشهيرة التي تثير غضبا دائما من غالبية الدول، فهي لا تظهر ديونها في الحسابات الرسمية للدول، وتقدمها على شكل قروض مصرفية حكومية، وتتمكن

بموجبها بكين من الاستحواذ على بعض الموارد الطبيعية والمؤسسات والشركات الناجحة التابعة للدولة إذا أخفقت في استرداد أموالها.

◙ يمكن للمناعة الاقتصادية والاجتماعية التي تعتمد عليها القاهرة أن تفقد مفعولها وبريقها مع تزاحم المتاعب على شريحة كبيرة من المصريين، وتدخل الحكومة في حلقات مفرغة لتدبير أحوالها المادية

تقع العديد من الدول التي ترى في الاقتراض حلا لمشاكلها الاقتصادية بين فكي رحى، صندوق النقد وما يفرضه من إجراءات تقشفية تزعج الحكومات وتبكيها أحيانا، وبين “المرابي” الصيني الذي يعرف كيف يحافظ على أمواله ويستردها وهو مبتسم لدائنيه، ما يجعلهم يرضخون لمطالبه، وهي لا تقل ضراوة عن الطريقة التي يتبعها الصندوق.

تضطر بعض الحكومات إلى الخضوع للابتزاز وإن اختلفت الوسيلة بعد أن ذهب زمن الحصول على قروض من المؤسسات الدولية بشروط ميسرة، وعلى الدول أن تستعد لسيناريوهات الإقراض الصعب من الصندوق ورفاقه، أو الاستجابة لـ”المرابي” الذي لن يتورع عن طلب أسعار فائدة مضاعفة وربما يحتكر هذا المجال مع زيادة ما لديه من فوائض تستخدمها بكين كأدوات سياسية لتوسيع نفوذها على الساحة الدولية.

حصلت دول نامية عديدة على أموال غزيرة في بعض الأوقات من خلال مساعدات أقل صعوبة في شروطها، وبددتها في مشروعات لا تمثل تنمية حقيقية، والآن بدأت غالبية الدول المانحة تغير من أسلوبها في العطاء، وتقدمه وفقا لمنهج جديد يضمن لها استثمارات واسعة ومكاسب واعدة، فقد انتهى زمن المساعدات بلا شروط وجاء زمن تريد فيه كل دولة الحفاظ على نمو مواردها.

تبدو المناوشات الأخيرة بين كل من مصر وتونس مع صندوق النقد كاشفة لما يدور في الكواليس من تأزم حيال الوصفة القاسية التي يعمل بها ولم تتغير منذ عقود وتمت تجربتها في دول عدة، نجحت في بعضها وأخفقت في غالبيتها، ما أدى إلى ارتفاع الغضب من سياساته ومحاولة تحميلها جانبا من المشكلات الاقتصادية والأزمات الاجتماعية الناجمة عنها دون التفات للتصرفات الخاطئة التي تتبناها بعض الحكومات وجعلت من القروض أزمة هيكلية.

يتحمل الصندوق جزءا من المسؤولية، لأن خطته تقوم على روافع اقتصادية صارمة، وأن البعد الاجتماعي فيها لا يحتل أولوية، وعندما تظهر مشكلات مفاجئة في الدول المقترضة أو أزمات عالمية تتأثر خطته، لأنها تفتقر إلى المرونة التي تساعدها على التكيف، وتنعكس آثارها السلبية بما يحرج الكثير من الحكومات ويظهر عجزها.

ليست المشكلة في القروض بالطبع، فغالبية الدول الكبيرة والصغيرة مدينة، داخليا أو خارجيا وبصور مختلفة، لذلك فالمشكلة في أوجه الإنفاق المستخدمة لصرف القروض، ولأن معظمها بعيد عن التنمية لن تصبح منتجة بالصورة الكافية التي تعظم الجدوى المادية والاجتماعية، فقد تأتي القروض ومعها وعود كبيرة للإصلاح الاقتصادي وتنتهي بتفاقم أو تفجير مشكلات وعجز فاضح في السداد.

يظل المقياس هو القنوات التي يتم وضع القروض فيها وطبيعة المشروعات التي تضخ فيها الأموال، حيث يجمع الكثير من الخبراء على أن التنمية طويلة الأجل لا تصلح معها القروض قصيرة الأجل التي لها توقيتات محددة في السداد، بينما عوائدها تحتاج إلى سنوات طويلة لتشعر الدولة بمردوداتها الاقتصادية.

وهي إشكالية وقعت فيها الحكومة المصرية مؤخرا، حيث مررت جزءا كبيرا من القروض في البينة الأساسية وتشييد مشروعات لن تدر عائدا قبل مضي أعوام، ما يعني أن هناك احتمالات كبيرة لعدم القدرة على السداد في المواعيد المتفق عليها، والدخول في دوامة تأجيلات ومساومات مع صندوق النقد، ثم اللجوء قسريا إلى “المرابي” الصيني لتجاوز العقبة مؤقتا وتحمل تكاليفها الباهظة لاحقا.

◙ الصين تتسلل عبر طرح مشروعات مغرية وتلجأ إلى أشكال غير عادية من الشروط، وقد تبدو أقل وطأة مما تحويه روشتة صندوق النقد الشهيرة التي تثير غضبا دائما من غالبية الدول

تمثل القروض أزمة عميقة للقاهرة في الوقت الراهن، فإذا كانت الحكومة تتفاخر بعدم تخلفها عن سداد الفوائد حتى الآن وقدرتها الظاهرة على مقاومة بعض شروط صندوق النقد بالنسبة إلى شرط التعويم والسعر المرن للعملة المحلية، ففي لحظة معينة يمكن أن تتخلف وتفقد قدرتها على المقاومة.

ويمكن للمناعة الاقتصادية والاجتماعية التي تعتمد عليها القاهرة أن تفقد مفعولها وبريقها مع تزاحم المتاعب على شريحة كبيرة من المصريين، وتدخل الحكومة في حلقات مفرغة لتدبير أحوالها المادية والوفاء باستحقاقات زمنية تتطلب وفرة في العملات الصعبة لسداد فوائد الديون، وتلبية مطالب وحاجات أساسية للمواطنين.

طرقت الحكومة المصرية أبوابا عدة، ولا تزال، لتخفيف حدة الأزمة الاقتصادية وتحاشي ارتداداتها الاجتماعية، وتحاول تدبير أمورها بتوسيع دوائر التعاون مع دول من الشرق والغرب والشمال والجنوب، وتحاول الانتماء إلى تحالفات اقتصادية تعتمد في تجارتها على العملات المحلية على أمل تقويض أزمة شح الدولار، غير أن الوصول إلى هذه النقطة يحتاج إلى شروط ومواصفات ووقت حتى يتم جني الثمار.

يخشى الخبراء أن تؤدي الأوضاع في مصر إلى زيادة الاعتماد على “مرابين” آخرين، سواء أكانوا من الصين أو غيرهم، لأن منهج “المرابي” قابل للتمدد مع ما يقدمه من إغراءات للطرفين، وقد يكون اللجوء إلى هذا الدواء في بدايته حلوا ثم يجلب معه إجراءات قاسية على المواطنين والدولة فيصبح مرا في تكاليفه على المدى البعيد.

تجسد المشاكل الاقتصادية أنماط التفكير التي تتبعها بعض الدول النامية في التعامل مع الأزمات الاقتصادية وما تعانيه من تداعيات تفرض عليها تقديم تنازلات، وما لم تشرع في التوجه نحو مشروعات تنموية وتعرف أن مواردها المحدودة تفرض عليها عدم الإنفاق ببذخ سوف تظل أسيرة لوصفة صندوق النقد أو راضخة لنظرية المرابي.

9