الاشتغال على النص وليس حوله

الأربعاء 2016/06/29

يعتقد هنري ميلر أن السعي المحموم لبلوغ الكمال وتحقيق الإنجازات الشخصية من دون الالتفات إلى المظاهر الصغيرة في الحياة قد تفقدنا التمتّع بمباهجها، وبالتالي، واستنادا إلى هذا الطرح، فإن المرء عندما يكون متصالحا مع ذاته ويتمتع بالاستقرار النفسي ويتحرر من ضغط المنافسة والتحديات، ربما يكون أقرب إلى الحياة الطبيعية

تذكّرت هذا الطرح عندما كنت قبل أشهر في شارع المتنبي الثقافي ببغداد أوقع نسخ روايتي الأخيرة (خان الشّابندر) لمن اقتناها من القرّاء على اختلاف مشاربهم، والذي أدهشني بحقّ، شريحة الشباب من القرّاء الذين اقتنوا الرواية أو قرأوها، أقصد لجهة وعيهم وتعلّقهم بالقراءة الذكية وقدرتهم على فرز الأدب العميق المستوفي للشروط الفنية، حتّى أن أحدهم استوقفني في الشارع وراح يشرح لي شدّة تأثره لموت “هند”، بطلة روايتي، فهي من وجهة نظره، امرأة على هيئة ملاك لا ينبغي موتها، كما أن الرواية أضفت هالة من القدسية والغموض والسحر على خرائب خان الشابندر التي راح يبحث عنها في الأزقّة الخلفية للحيدر خانة، وعندما سألته عن نسخته كي أوقعها له أخبرني بخجل بأنّه لم يتمكن من اقتنائها، لأنّه ببساطة لا يملك ثمنها، وكل ما لدية عشرة آلاف من الدنانير تكفيه فقط للعودة إلى مدينته الحلة، وأنّه إنّما استعار نسخة من صديق له وقرأها بتأثر، فما كان مني إلا شراء نسخة خاصّة له وتوقيعها وأهدائها له. بالتأكيد لا أستطيع وصف فرحته هنا مهما حاولت، كما لا أستطيع شرح تأثري بتلك الحالة التي جعلتني أتلمس حجم المسؤولية التي تلقيها على كاهلنا قضية إصدار رواية وطرحها في الأسواق. لكن من جهة أخرى وجدت نفسي أمام تساؤلات مُلحة من قبيل، ماذا يريد الكاتب منا تحقيقه من عملية الكتابة؟ وكيف يمكننا قياس النجاح؟ وما هي مكافأة الكاتب على إصداره لكتاب ما؟ وما هي طبيعة جمهوره؟ وما هو التأثير الذي يتركه على مخيّلة وسلوك ومشاعر قرّائه؟ لقد غيّرت جولتي في شارع المتنبي تلك مفهومي للكتابة تماما، كما علّمتني درسا بليغا لم أكن أعيه في الحقيقة.

مرّة قالت لي صديقة سورية تعمل في مجال الإخراج السينمائي، بأنّنا، نحن الكتاب والمخرجين، عندما نصدر رواية أو نصنع فيلما، إنّما ندعو الآخرين إلى الدخول إلى غرفنا الخاصّة والاطلاع على أحلامنا وتخيلاتنا وخيباتنا وخياناتنا الصغيرة حتّى نصبح مكشوفين تماماً بالنسبة إليهم، لكن تلك المشاركة، من وجهة نظري هذه المرّة، مشاركة روحية لا تخلو من الأبعاد العاطفية البحتة، كما لو كانت دعوة للآخرين من أجل المساعدة في رفع الثقل المخيلاتي وإزاحة الضغط عن كاهل الكاتب، فما أن تخرج الفكرة من رأس المؤلف حتّى يتكفل بها القرّاء ليوسعوها صقلا وقدسية وتخيلات، شيء يشبه إطلاق سرب حمام حبيس في قفص ليحلّق بعيدا في سماوات الخيال الجمعي ويجسد أسطورته، تلك هي مكافأة الكاتب الحقيقة وما عداها مكملات ثانوية لا ضير بمتابعتها أو السعي لأجلها، لكنّها في جميع الأحوال لا تدخل ضمن العملية الإبداعية البحتة. فقضية الانتشار أو تحقيق أوسع المبيعات وعقد الندوات والترشح للجوائز وغيرها، لا تعدو عن كونها اشتغالا حول النص وليس داخله. لكن في جميع الأحوال يبقى الاشتغال على النص من الداخل هو المهم، وليس الانشغال بما حوله من مكملات على الرغم من أهميتها.

كاتب من العراق

14