الاستقطابات الحزبية تضاعف أزمة تجمع المهنيين في السودان

أقر تجمع المهنيين السودانيين، أحد أبرز مكونات الحراك الشعبي ضد الرئيس المعزول عمر حسن البشير، بوجود أزمة داخل صفوفه، على خلفية اختيار أعضاء أمانة عامة جديدة للتجمع لم تحظ بتوافق داخلي، ومن شأن الخلافات السياسية أن تلقي بظلالها سلبا على تماسك الحكومة، فيما ستسعى بعض الأطراف في مقدمتها فلول النظام السابق، حالة التصدع داخل التجمع لتقوية شوكتهم في الشارع.
يعيش تجمع المهنيين، الذي لعب دورا مهما في الحراك الثوري بالسودان، أزمة محتدمة على وقع خلافات سياسية بين مكوناته، ظهرت تجلياتها خلال الأيام الماضية في شكل تراشقات، معظمها يدور حول صراع بعض الأجنحة على اختطافه والسيطرة على مفاتيحه الرئيسية، كورقة مهمة في التأثير على الحكومة الانتقالية، والتي تعاني من تصاعد المشكلات داخل جدران ظهيرها الشعبي والسياسي، المتمثل في تحالف قوى الحرية والتغيير، ويضم ألوانا سودانية مختلفة تسهم بدور فاعل في المشهد السوداني.
واعترفت قيادات في التجمع السبت بحدوث انقسام داخلي جراء انتخاب سكرتارية جديدة في العاشر من مايو الماضي، وسط اتهامات باختطاف الحزب الشيوعي للقرار، وتوالي تفجير المزيد من الخلافات، التي باتت تهدد الكيان الأكثر تأثيرا في الشارع.
تمت مخاطبة المجلس المركزي للحرية والتغيير لسحب الممثلين السابقين، لكنه لم يعتمد الوجوه الجديدة، ما أفضى إلى أزمة سياسية ساخنة، حتما سوف تلقي بظلالها على تماسك الحكومة، التي حرص رئيسها عبدالله حمدوك خلال الأيام الماضية على إجراء حوارات مع أطراف عدة لإخماد بركان قوي، يمكن أن يعصف بالكثير من مكتساب الثورة السودانية.
ظهرت معالم الأزمة منذ فبراير الماضي، عندما اعترضت بعض القوى على نوايا الحزب الشيوعي في الاستحواذ على التجمع، ومحاولة استغلال السيولة التي يبدو عليها هيكله، وقلة حنكة بعض القيادات المهنية، تمهيدا لسيطرة ما على توجهات الحكومة وتحديد بوصلتها، ثم الهيمنة على الفترة الانتقالية، والتحكم في عملية الحلّ والعقد.
هكذا رأت القوى المناوئة تحركات الشيوعي الأخيرة، ما دفعها للمزيد من الاحتراب السياسي معها، فقد ظلت بعض قياداته تنأى عن الواجهة، لكنها تساهم بدور مهم في توجيه الأحداث.
تنامت الأزمة مع تقديم القيادي في التجمع محمد ناجي الأصم، استقالته في مارس الماضي، لكن النار اشتعلت فعلا في جسم التجمع مع رفض ستة من الأجسام المهمة فيه للعملية الانتخابية الأخيرة، وهم: لجنة الأطباء، والتحالف الديمقراطي للمحامين، وتجمع المهندسين، والبيئة، والموارد البشرية، والعاملين في الأرصاد الجوية، حيث طالب هؤلاء بـ”تكوين قيادة تسييرية توافقية تتولى عقد مؤتمر تداولي للتجمع خلال 3 أشهر”.
وصلت الاتهامات إلى التلويح بأن إبعاد الكثير من القيادات التاريخية للتجمع التي قادت الثورة وعانت في سجون النظام البائد، تمت لأنهم لا ينتمون إلى الحزب الشيوعي، وجرت المهمة عبر انتخابات كان هدفها منح عملية الانتقال السلمي في جسم التجمع مصداقية وجاذبية سياسية.
رفضت السكرتارية الجديدة لتجمع المهنيين الاتهامات ما يتردد بشأن اختطاف الكيان على يد قوى حزبية واعتبرت ذلك “فرية مردودة”، وأن الانتخابات جرت في أجواء مؤسساتية منضبطة، أنهت اختطاف التجمع على يد مجموعة صغيرة.
ربما خضعت هيكلة التجمع لنقاشات متتالية كثيرة، وتطرقت إلى الرؤية السياسية، ولائحة الانتخابات، ودور المكاتب، غير أنها لم تسلم من حديث التوظيف المتعمد.
تعطيل الثورة
تشكل تجمع المهنيين قبل نهاية عام 2018، وتحول إلى قائد للحراك الثوري في ديسمبر من العام التالي في الدمازين والفاشر وعطبرة، ثم انتقل نشاطه إلى غالبية الولايات، وكان موكب الخرطوم في 25 ديسمبر، أي قبل بضعة أشهر من سقوط نظام البشير، لفت الأنظار من خلال طريقة التنظيم والتوجهات السلمية، بعدها بدأ يُعرف أن هناك جسما للتجمع وقيادات، أصبحت من أهم مكونات تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير التي دخلت في مفاوضات مع المجلس العسكري حتى توقيع الوثيقة الدستورية في أغسطس الماضي.
أكد الأصم في مؤتمر صحافي السبت أن التيار الحزبي حاول تجيير التجمع عبر إصدار بعض المكونات بيانات تهاجم نشاطه، وحاول التيار المهني الحزبي فرملة عمل الثورة برفضه عملية السلام الجارية في جوبا، وأسهم في تجميد عضوية التجمّع في لجنة تفكيك نظام البشير، لافتا إلى أنهم “لن يسمحوا باختطاف التجمع”، وقائلا “وقع صراع داخلي معطل ومشوه لدور المهنيين، ونحن مارسنا أعلى درجات الصبر لوحدة التجمع وإصلاحه”.
يخشى مناهضو الحزب الشيوعي من نجاحه في توظيف خبرته في العمل السري، وتمكنه من رسم الخارطة السياسية بالطريقة التي يريدها، مستفيدا من حداثة عهد عدد كبير من القوى السياسية في تحالف الحرية والتغيير، واستمرار ملامح النقمة على القوى التقليدية التي شاركت في الحكم خلال فترة حكم البشير، وبالتالي تبدو الفرصة مهيأة أمامه للمزيد من التقدم.
يريد من تصدوا للشيوعي صراحة أو ضمنيا، عدم تكرار تجربة الحركة الإسلامية في التسلل داخل الأجسام السياسية المتباينة، ومواجهة أمر واقع قد يصعب تغييره لاحقا، خاصة أن غالبية القوى الأخرى صارت منهمكة في تصفية حسابات داخلية مرهقة، ولا يخلو حزب أو حركة من انشقاقات تعصف به، وفي هذه الأجواء من السهولة بلورة رؤية سياسية للاختطاف.
وسط هذا الخضم لم يسلم حمدوك من تلميحات نالت منه سياسيا، استنادا إلى تاريخه السابق في العمل السري، والانخراط لفترة في بداية حياته داخل صفوف الحزب الشيوعي، في إشارة تفيد بعدم ممانعته تمدد الحزب في التجمع ومؤسسات الدولة لاحقا.
تستخدم في الحرب الدائرة داخل التجمع كل الأسلحة، فإذا كانت القوى الرافضة للشيوعي ترفض هيمنته وتقدم حججا وأسانيد تعزز موقفها، وجهت قيادات في الحزب انتقادات لقوى رئيسية في الحرية والتغيير بشأن دفاعها عن مصالح شخصية، وسلب عدد كبير من المقاعد الوزارية لأنصارها، والسعي لبسط يدها على حكام الولايات، حيث تأجل قرار تعيينهم لخلافات حول الحصص، كما أن جانبا من تعثر تعيين أعضاء المجلس التشريعي يعود للسبب نفسه، ولذلك دخلت الخلافات خندقا يقلل من فرص التفاهم على أرضية الثورة.
العدو الخفي
تساعد التجاذبات التي تعتمل داخل تجمع المهنيين، ومن ثم قوى الحرية والتغيير، على فهم جانب من المشكلات التي عطلت إحراز تقدم في الكثير من القضايا المحورية، وأوحت بأن الهوة بعيدة بين الحكومة والقوى الداعمة لها، الأمر الذي تستغله جهات تريد تعظيم مكاسبها خلال الفترة الانتقالية، وتثبيتها كي تستمر معها إلى ما بعد تجاوزها، وأخرى تنتهز الفرصة للقفز على السلطة، وفي مقدمتها فلول النظام السابق الذين تساهم الخلافات بين قوى الثورة في تقوية شوكتهم في الشارع.
تنبع الأزمة من عدم وفاء الكيانات التي يتشكل منها التجمع بتعهداتها، حيث اتفقت منذ البداية على استقلاله وعدم تسخيره لصالح أي حزب، والحرص على أولوية دعم الحكومة، وما حصل لاحقا مضى في مسارات عنوانها، تغليب المصالح الشخصية والحزبية على الوطنية.
أصبح تجمع المهنيين منقسما الآن إلى جزء يطالب بالحفاظ على جسم الحرية والتغيير ويدعم حكومة حمدوك، وآخر يدعو إلى الإطاحة بهما، وتحميلهما أسباب الإخفاقات طوال الفترة الماضية، وهو ما يقود إلى المزيد من التعقيد، في وقت تستعد فيه السلطة الانتقالية لاستقبال بعثة سياسية من الأمم المتحدة للإشراف على تهيئة الأجواء بما يفيد في حل الأزمات المتراكمة، وإيجاد واقع يسهم في الانتقال الديمقراطي الناعم.
يفضي عدم رأب الصدع إلى حدوث تداعيات سياسية كبيرة على الأوضاع العامة، ويؤكد أن قوى الثورة غير قادرة على العبور بها إلى برّ الأمان، وهي نتيجة ظهرت في أداء الكثير من الجماعات الشبابية التي قادت الحراك في دول عربية عدة، حيث أدت خلافاتها البينية إلى القضاء عليها، وإفساح المجال لقوى مناوئة للقبض على مفاتيح مهمة في السلطة.