الاستثمار في حقوق المرأة لم يعد ترفا في عالم متغير

وظفت الطبيبة المتخصصة في الأمراض الوبائية مونيكا شارما خبرة أكثر من عقدين من العمل مع منظمة الأمم المتحدة في تأليف كتاب دعت من خلاله إلى القطع مع الأعراف والقرارات المعمقة لمبدأ الإقصاء وعدم المساواة، كما طرحت أسئلة من قبيل كيف يمكننا إعادة اكتشاف من نكون ككائنات بشرية في ما وراء العِرق والنوع؟
القاهرة - طرحت قضية المساواة بين المرأة والرجل بشعارات مختلفة ومن ومنطلقات متفاوتة، وكان الجامع بينها سعي نسوي ومدني نحو تحصيل حقوق المرأة في مواجهة القوة التي تنظم المجتمع، وتعمل في الوقت نفسه على بناء سيادة الذكور.
تستند بعض النساء في معركتهن لتحقيق المساواة إلى أن جذر عدم المساواة الاجتماعية في كل المجتمعات مستمرّ حتى الوقت الحالي، فيما تتواصل الأصوات المنادية بضرورة تحقيق المساواة المجتمعية الكاملة لما في ذلك من صالح للجميع.
ويعتبر البعض أن المساواة التامة مطلب “راديكالي”، في حين يؤكد آخرون، ومنهم الدكتورة مونيكا شارما، الطبيبة المتخصصة في الأمراض الوبائية والتي عملت في هيئة الأمم المتحدة لأكثر من عشرين عاما، أن التحوّلات التي تشهدها مختلف المجتمعات، دون استثناء، تفرض مراجعة تلك الأعراف الداعمة للنظرة الذكورية.
وقدّمت شارما رؤيتها في كتاب حمل عنوان “القيادية.. رحلة نحو التغير الشخصي والمجتمعي”، مطالبة بتغيير الأعراف الاجتماعية الإقصائية وخلق فرص متساوية. وشدّدت على أنه “لا بدّ أن ينخرط المواطنون بشكل نشيط في تغيير الأعراف البليدة، كما لا بدّ أن تفعل نفس الشيء الحكومات والشركات ومؤسسات الأعمال والمنظمات غير الربحية والمجتمع المدني”.
وطورت شارما رؤية فكرية شاملة هدفت فيها إلى معالجة حال المجتمعات وتغيير موقع المرأة فيها، معتبرة أن الكتاب هو من أجل كل من هو ملتزم بالعمل على حل المشكلات، سواء كانت محلية أو عالمية، وأن القيادية الراديكالية التحولية فكرة قد آن أوانها، حيث ما زالت أغلب المجتمعات والمؤسسات والمنظمات غير واعية أو لم تتعرض لقوتها وإمكانياتها بعد، وتقاوم التغيير بقوة.
وتقول “يمكننا دائما خلق تأثيرات أعمق، بناء على القرارات التي نتخذها، والاستراتيجيات والبرامج التي نصممها، والسياسات التي نصوغها. إن خفض نسبة وفيات الأمهات يتعلق بتأسيس رعاية الطوارئ للنساء الحوامل، كما يتعلق -أيضا- بكرامة المرأة وصوتها وحقوقها، بغض النظر عن قدرتها على دفع ثمن الخدمات”.
ويعدّ ما يعيشه العالم اليوم من أوقات عصيب، دافعا لتأليف كتاب “القيادية.. رحلة نحو التغير الشخصي والمجتمعي”، إذ أنه بالرغم من فوائد التقدم التكنولوجي التي تصل إلى الكثيرين، إلا أن هناك ملياري شخص على الأقل مُهمَلون تماما، بالإضافة إلى أن الناس سواء كانوا أغنياء أم فقراء، يتأثرون بشكل ما بالعديد من القرارات الكارثية التي اتخذها البشر في الماضي.
وترى الكاتبة أنه حان الوقت للتوقف عن الاستمرار في تأييد بعض القرارات التي نتج عنها تدهور بيئي، وانقراض للأنواع، وصراعات، وقتل، ونزوح ملايين اللاجئين، وظروف معيشية مروعة لواحد من كل سبعة من البشر.
وتتساءل الخبيرة بالأمم المتحدة حول الطرق الفعالة لضبط التشظي وتجاوزه في أماكن العمل، قائلة كيف يمكننا استثمار التطورات التكنولوجية، والفهم الأعمق للإمكانات البشرية، وزيادة القدرة على الاتصال بأفضل شكل من أجل تحويل الأنظمة الاقتصادية والمالية والمعايير الإقصائية؟
وأظهرت العديد من الدراسات والبحوث أن المرأة لا تحظى بفرص متكافئة مع الرجل في أماكن العمل وفي الأنشطة والفعاليات والمجالات العلمية والعملية، وهو ما يعكس تشظي الكفاءات لتُرجّح الكفة لصالح الذكور دون الإناث.
وتبلغ نسبة مشاركة المرأة في سوق العمل بالوطن العربي -على سبيل المثال- وفقا لدراسة حديثة أعدها صندوق النقد العربي بعنوان “محددات مشاركة المرأة في القوى العاملة بالدول العربية”، 18.9 في المئة من إجمالي الإناث في سن العمل عام 2017، مقارنة مع 48.7 في المئة للمتوسط العالمي.
وتشير نتائج الدراسة إلى ازدياد التحديات التي تواجه أوضاع مشاركة المرأة في سوق العمل بالدول العربية في ضوء ارتفاع معدلات البطالة بشكل عام في هذه البلدان، حيث يشكل معدل بطالة المرأة في هذه الدول البالغ نحو 16.7 في المئة خلال عام 2017 نحو قرابة ثلاثة أضعاف معدل بطالة المرأة المسجل على مستوى العالم البالغ نحو 6 في المئة في نفس العام.
أما في الغرب، ووفقا للدراسة فإن مئات الشركات في بريطانيا كشفت، في عام 2018، عن فارق في الرواتب بين موظفيها من النساء والرجال يصل إلى أكثر من 15 في المئة لصالح الرجال لما يحصلون عليه من أجر في الساعة. ولا يزال معدّل مشاركة النساء في سوق العمل بالولايات المتحدة منخفضا جدّا بالمقارنة مع معدّل مشاركة الرجال، إلّا أن فجوة الأجور بين الجنسين تراجعت بشكل كبير بين العامين 1980 و2018.
وأشار معدّ الدراسة في “مركز بيو للأبحاث” الأميركي المستقل، إلى أن المكاسب التي حقّقتها النساء في أجورهن أتت من النموّ السريع في الوظائف التي تتطلّب مهارات “اجتماعية” وتخصصا نسائيا.
كما لفت الإعلان السياسي الذي اعتمدته الدورة الـ64 للجنة وضع المرأة التابعة للأمم المتحدة، في مارس الماضي، بشكل خاص إلى استمرار الحواجز الهيكلية والممارسات التمييزية وتأنيث الفقر في العديد من المناطق.
ودعا الإعلان المجتمع الدولي إلى العمل جماعيا من أجل القضاء على الصور النمطية التي لا تلائم هذا العصر وتديم التحيزات والممارسات التمييزية والعنف القائم على النوع الاجتماعي، كما دعا إلى ضمان التمكين الاقتصادي للمرأة؛ على سبيل المثال، الوصول إلى العمل اللائق والمساواة في الأجر.
وأثبتت الخبرات المتزايدة للحركات النسوية في العقود الحالية أن تمكين المرأة جعل العالم يسير نحو الأفضل، وهو ما يستوجب تغييرات سريعة وجذرية، ولاسيما في طرق التعامل مع قضايا المرأة.
وتقول شارما إن المحول الراديكالي في محاولة فهم هذه القضايا يسأل أسئلة تتطلب طرقا جديدة في التفكير والفعل.
ولطالما أظهرت الحركة النسوية أنها لا تقتصر على تغيير نظام المرأة فقط والتعامل مع قضاياها بشكل سطحي، بل تتجاوزه إلى الرغبة في التغيير الجذري للعلاقات الاجتماعية، وإزالة العلاقات الاجتماعية القائمة على العلاقة الأبوية بين الفتاة والأب. وهو ما أكدت عليه شارما بالقول “يحركنا التحول الراديكالي في ما وراء الهيمنة والسلطة الأبوية ويخلق نماذج جديدة اجتماعية ومهنية من المساواة، محققا واحديتنا الإنسانية الجوهرية”.
وأضافت “يمكن لكل واحد المساهمة في تغيير النموذج الفكري والتعامل مع التعقيد؛ استقاء القيم العالمية لأجل العمل الاستراتيجي، إظهار إمكاناتنا كاملة، إيقاف التحيزات المسببة للانقسامات، إعادة ما هو مفتقد إلى مكانه، والإسراع بإتمام المهمة غير المكتملة والمتعلقة بتحقيق العدل والاستدامة في عالمنا”.
وسلطت الضوء على الخطوات العملية التي “يمكننا جميعا اتخاذها لتوليد تحول للنموذج الفكري؛ كيف يمكن للحركات الاجتماعية الحالية ومشروعات قطاع الأعمال والحكومات ووسائل الإعلام والمؤسسات الأكاديمية والمواطنين أن يتآزروا ليصنعوا تأثيرا إيجابيّا ذا معنى في عالم اليوم المعقد ودائم التغيّر”.