الاستبداد.. قابلية للفساد

الاستبداد لا يحتاج فقط يدا أمنية باطشة، بل يحتاج أيضا مستفيدين، يوفرون للنظام الفاسد كل لوازمه السياسية والفكرية والإعلامية والاقتصادية وغيرها.
الثلاثاء 2018/12/11
دور حيوي للشعب

في العام 2015 أصدرت منظمة الشفافية الدولية تقريرها السنوي الذي تضمن المؤشر الدولي لملاحظة الفساد وقدم ترتيبا لدول العالم حسب درجة وجود الفساد الذي يقاس بمؤشرات علمية محددة. الترتيب تضمن أغلب دول العالم. حلت الدنمارك وفنلندا والسويد ونيوزيلندا في المراتب الأولى (بوصفها أقل دول العالم فسادا) وجاءت الصومال وكوريا الشمالية وأفغانستان في المراتب الأخيرة، بما يعني أنها أكثر دول العالم فسادا.

يقدم الترتيب المشار إليه صورة تقريبية عن ترتيب شيوع الديمقراطية وفي العالم، ولو أنه تطرق لمؤشرات الفساد، وللوهلة الأولى يبدو انتشار الفساد في العالم متصلا بانتشار الاستبداد أو على الأقل غياب الديمقراطية. ثمة صلة وثيقة تجمع بين الفساد والاستبداد، وهذا يعني أن الفساد بوصفه “إساءة استغلال السلطة المؤتمنة من أجل المصلحة الشخصية” (وفق تعريف منظمة الشفافية الدولية نفسها) هو فساد حكومات وأنظمة لا فساد شعوب.

هذه المصادرة لا تعني أن الشعوب معفية أو منزّهة من ممارسة أفعال وممارسات الفساد، ولكن تلك الممارسات والأفعال يتقلصُ منسوبها وانتشارها في وجود نظام سياسي سوي ومتماسك وديمقراطي قائم على تطبيق القانون، يتساوى أمامه الجميع في الحقوق والواجبات، ولا مكان فيه للإفلات من العقوبة أو لمختلف أشكال “الحصانة” غير القانونية.

أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، قال الاثنين في جلسة نقاش مفتوحة أمام مجلس الأمن الدولي حول الفساد ومناطق الصراعات في العالم، إن “تكلفة الفساد تبلغ على الأقل 2.6 تريليون دولار، وهو ما يساوي 5 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي”. وأكد أن “الفساد موجود في جميع البلدان، غنية وفقيرة، في الشمال والجنوب، متطورة ونامية”.

إقرار الأمين العام للأمم المتحدة بأن الفساد ظاهرة كونية لا تستثني قطرا، لا يخفي أيضا أن ثمة تفاوتا في عمق الظاهرة وخطورتها بين قطر وآخر. والتفاوت هنا نابع ومترتب عن التفاوت في تطبيق القانون.

الاستبداد لا يحتاج (لتحقيق استبداده وتأبيده) فقط يدا أمنية أو عسكرية باطشة، بل يحتاج أيضا دوائر وطبقات من التابعين والمستفيدين، الذين يوفرون للنظام الفاسد كل لوازمه السياسية والفكرية والإعلامية والاقتصادية وغيرها، ومن هنا تنشأ علاقة جدلية بين النظام وأتباعه، تتوسع بالتدريج للتحول إلى ما يشبه الزبونية السياسية التي تستفيد من النظام القائم وتفيده، ودائما على حساب المصلحة العامة. وعندما تتوسع هذه الدائرة من الزبونية السياسية في غياب القانون والديمقراطية، يستحيل الفساد، بشتى أشكاله، فعلا شعبيا معتادا ورائجا في إطار العلاقات التي تم نسجها بين النظام ومختلف الفئات المحيطة بدوائره المركزية (العسكرية والأمنية والعائلية والاقتصادية).

في الوثيقة المخصصة لليوم العالمي لمكافحة الفساد أشارت منظمة الأمم المتحدة إلى أن قيمة الرشى في العالم تصل في كل عام إلى تريليون دولار، فيما تصل قيمة المبالغ المسروقة عن طريق الفساد إلى ما يزيد عن تريليونين ونصف دولار. وهذا مبلغ يساوي خمسة  بالمئة من الناتج المحلي العالمي. وفي البلدان النامية، حسب ما أشار برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، تقدر قيمة الفاقد بسبب الفساد بعشرة أضعاف إجمالي مبالغ المساعدة الإنمائية المقدمة.

هذه الأرقام الفلكية التي كشفتها الأمم المتحدة، والكلفة الضخمة التي يتكبدها العالم سنويا جراء الفساد، (كلفة تتفاوت أيضا حسب البلدان سواء في مستوى المساهمة أو في مستوى الأثر) تحيل إلى أن الفساد أضحى ممتدا إلى شتى أنواع الأنشطة الاقتصادية والسياسية. فالاقتصاد الموازي والتهرب الضريبي وتجارة الأسلحة والمخدرات وتبييض الأموال وغيرها، كلها أجناس من الفساد لا تترعرع إلا بمساهمة من السلطة أو بتواطؤ منها أو على الأقل في غفلة منها، لأن تلك الأنشطة توجد حتى في المناطق التي يتقلص فيها الفساد، وهذا يعني أن هذا الفساد الكبير، الذي نحن إزاءه، تمارسه شركات كبرى أو مجموعات قريبة من السلطة، أو ميليشيات تتمعش من قربها من السلطة أو تستغل تراجع أو غياب سلطة الدولة.

الفساد، مثل كل الظواهر الاقتصادية والسياسية المركبة، لا يمكن تفسيرها بعامل واحد، ولا يعقل الركون إلى استسهال تحميلها للشعوب، لأن ذلك سيعفي الأنظمة من تحمل مسؤوليتها، فضلا عن كون ذلك التفسير يوحي بـ“قدرية” تجعل مقاومة الفساد من ضروب المستحيل، طالما أن الفساد نابع من الشعب ومترسخ في الذهنيات. ولا شك أن العودة إلى ترتيب دول العالم في مؤشرات الفساد تقدم دروسا بليغة مفادها التلازم بين الديمقراطية وتقلص الفساد.

12