الإمارات وآفاق الاستثمار في قطاع الفضاء

ظل الاستثمار في قطاع الفضاء على مدى العقود الماضية حكرا على الأقطاب العالمية الكبرى. كما اتصف بالسرية والغموض والطابع العسكري، وخاصة خلال الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. غير أن الأبواب انفتحت لاحقا أمام المنافسة والتأهيل واكتساب المعارف وخوض تجارب إطلاق الأقمار الاصطناعية لأغراض متعددة.
وسعيا للمنافسة في هذا القطاع الحيوي الهام أنشأت دولة الإمارات العربية المتحدة وكالة للفضاء تعتبر أول وكالة فضاء عربية وصاحبة أول مشروع عربي لاستكشاف كوكب المريخ، طبقا للمشروع الذي تعمل عليه منذ مدة خبرات إماراتية لإنجاز “مسبار الأمل” المخصص لترجمة هذا الطموح الكبير. ويأتي اهتمام الإمارات بهذا المجال بالتوازي مع خطط التنمية المستدامة والسعي إلى خلق بدائل اقتصادية ومشروعات تنموية عملاقة. وعلى ضوء ذلك تولد الطموح الإماراتي المتعلق بالاستثمار في قطاع الفضاء.
تم إنشاء وكالة الإمارات للفضاء عام 2014، وعلى رأس أهدافها ترجمة طموح الدولة في التنويع الاقتصادي وترسيخ الاقتصاد المبني على المعرفة، وتنظيم وتطوير قطاع الفضاء في دولة الإمارات من خلال التركيز على تنمية المقدرات الوطنية في تكنولوجيا الفضاء. إلى جانب إعداد وتنمية الكوادر الوطنية لدعم القطاع والمساهمة في تطويره، ودعم مفهوم البحث والتطوير والابتكار في مجال تقنيات وعلوم واستكشاف الفضاء، وتعزيز وإبراز الإمارات على الخارطة الفضائية إقليميا وعالميا، وبما يضمن تقديم كافة الخدمات الإدارية وفق معايير الجودة والكفاءة والشفافية، وترسيخ ثقافة الابتكار في بيئة العمل المؤسسي.
وما ساعد على ترجمة هذا التحدي على أرض الواقع أن عددا لا بأس به من الكوادر الإماراتية المحلية نالت حصتها من التأهيل العالي في مجال علوم الفضاء والاتصالات وغيرها من التخصصات العلمية المساعدة. ما يعني أن خوض الإمارات غمار التحدي في استكشاف الفضاء وإطلاق الأقمار يتم بكوادر محلية مؤهلة تأهيلا عاليا. ومع تراكم التجارب تكتسب الكوادر المحلية خبرات جديدة في كل مرحلة.
حتى الآن لا تزال المفاجآت في الانتظار وبعضها قابل للتحقق في المستقبل القريب جدا، لكن الاشتغال على مشروعات إماراتية عملاقة ذات صلة باستكشاف الفضاء لا يزال مستمرا، مثل العمل على مشروع “مسبار الأمل” إلى المريخ كأول برنامج من نوعه تخوضه دولة عربية، تجسيدا لطموح الإمارات للنهوض بمستقبل قطاع الفضاء.
أما تباشير النجاح العملي في هذا الحقل الاستثماري الاستثنائي فإنها سوف تظهر في أكتوبر الجاري، مما يعزز ثقة الإمارات بأبنائها العاملين في هذا المجال، حيث تم الإعلان عن اقتراب موعد إطلاق أول قمر اصطناعي إماراتي يتم تطويره بأيدي فريق من المهندسين الإماراتيين ويحمل اسم “خليفة سات”، ومن المقرر أن يتم إطلاقه من المحطة الأرضية في مركز تانيغاشيما الفضائي في اليابان على متن الصاروخ H-IIA الذي تأكد موعد إطلاقه في 29 أكتوبر، ليبدأ عمل القمر في مداره لمدة خمس سنوات.
وطبقا للتعريف بالمشروع، يعد “خليفة سات” أيقونة هندسية فائقة التطور وهو مخصص لأغراض رصد الأرض، ويمتلك خمس براءات اختراع. وتم تصميمه وتطويره وتصنيعه وإدارته بالكامل في مرافق مركز محمد بن راشد للفضاء. وعمل على هذا المشروع 70 مهندسا إماراتيا من مجالات وتخصصات مختلفة، ويمتاز بسرعته الفائقة لتوصيل المعلومات إلى المحطة الأرضية.
وطبقا للقائمين على هذا المشروع سوف يقوم بتوفير صور عالية الجودة ودراسات بيئية على التربة وجودة المياه والتحقق من تسرب النفط ومراقبة تلوث الأراضي، وغيرها من الجوانب البيئية. كما سيكون له دور كبير في المساهمة في الحد من أضرار الكوارث البيئية في العالم عن طريق تقديم تقارير تحليلية لمساحة الأماكن المتأثرة بالكارثة وصور حية للأماكن الآمنة.
غير بعيد عن أكتوبر شهر المفاجآت في مضمار استثمار الإمارات في قطاع الفضاء، كشفت وكالة الإمارات للفضاء على لسان مدير عام الوكالة المهندس محمد ناصر الأحبابي عن إعداد استراتيجية متكاملة خاصة بالاستثمار في القطاع الفضائي بالتعاون مع عدد من الجهات المعنية، ومن المقرر أن يتم الإعلان عنها هذا الشهر. وبحسب تصريحات إعلامية رسمية من وكالة الإمارات للفضاء، سوف تسهم الاستراتيجية التي استغرق العمل عليها أكثر من عام في تعزيز إسهام قطاع الفضاء في الاقتصاد الإماراتي القائم على المعرفة.
وبلغة الأرقام التي لا تكذب، وتأكيدا على حجم اهتمام الإمارات واندفاعها للاستثمار في اقتصاد المعرفة من بوابة قطاع الفضاء، أفادت تصريحات إعلامية بأن إجمالي الاستثمارات الإماراتية في قطاع الفضاء ارتفع من 20 مليار درهم في العام 2015 ليبلغ أكثر من 22 مليار درهم حتى النصف الأول من العام الحالي. مع الإشارة إلى أن الصناعات الفضائية وخاصة الأقمار الاصطناعية وخدماتها أصبحت من أهم المحركات الأساسية لرفع معدل النمو الاقتصادي في الإمارات.
هكذا تدور عجلة الطموح المستقبلي في الإمارات. وما بين خطوات البداية والتدشين والوصول إلى نتائج عملية، كان الكفاح والعمل الجاد وسيلة للوصول إلى الهدف. واتساقا مع الجهود التي حققتها الإمارات في هذا الحقل، سوف تشارك في الدورة الـ69 للمؤتمر الدولي للملاحة الفضائية الذي ينعقد خلال الشهر الجاري في ألمانيا، وسوف يقدم المهندسون الإماراتيون من مركز محمد بن راشد للفضاء ووكالة الإمارات للفضاء أوراقا علمية متعددة تعنى بالقطاع وتبحث في الفضاء واستكشافه. وفي السياق أيضا كشف مدير عام وكالة الإمارات للفضاء أن المؤتمر سيشهد الإعلان عن توقيع اتفاقية كبرى بين دولة الإمارات ووكالة ناسا. كما كشف عن فوز دولة الإمارات باستضافة الدورة الـ71 للمؤتمر الذي يعقد عام 2020 في دبي.
وبذلك يمكن اعتبار الدرس الإماراتي في اقتحام عالم الفضاء درسا جديدا في المثابرة والطموح والصبر والدأب. دون أن نتجاهل أهمية تأهيل الكوادر المحلية التي لا يمكن لأي مشروع طموح من هذا النوع أن يتحقق دون إخلاص وعطاء أبناء البلد وسواعده الشابة.
وبالتوازي مع اقتراب موعد الإعلان عن الاستراتيجية الإماراتية المتكاملة الخاصة بالاستثمار في القطاع الفضائي، هناك بعض المعطيات التي تم الكشف عنها، لتقديم إضاءة مختصرة حول ما تحقق على المستويات التشريعية والتعليمية والعملية المتصلة بالمشروعات التي يتم تنفيذها.
وبحسب القائمين على إدارة وكالة الفضاء الإماراتية، تمتلك الإمارات برنامجا شاملا تتكامل فيه المحاور الفنية والتشريعية. في هذا الإطار أعلن عن امتلاك الإمارات 10 أقمار اصطناعية، ستشكل تحولا مهما في طبيعة وشكل استثمارات الإمارات في قطاع الفضاء، بحكم دخول الإمارات بالقمر الجديد عصر التصنيع الفضائي الكامل، بالنظر إلى أن مشروع قمر “خليفة سات” تم بإشراف كامل من قبل مهندسين إماراتيين بنسبة 100 بالمئة.
من ضمن المعطيات التي تم الكشف عنها أيضا، امتلاك الإمارات لبرنامج متكامل لإعداد رواد الفضاء، يعد خطوة طموحة وجريئة مع إعلان أسماء أول رائدي فضاء إماراتيين، وهما هزاع المنصوري وسلطان النيادي.
ويبدو أن النجاح في جانب التأهيل العالي المتخصص أثمر طوحا أكثر شمولا، دفع الإمارات إلى التطلع إلى أن تكون مركزا إقليميا للتعليم في القطاع الفضائي، وتمهيداً لتحقيق هذه الغاية أبرمت 25 اتفاقية مع مؤسسات دولية تعنى بالقطاع الفضائي في العالم، وفي انتظار توقيع اتفاقيات أخرى. وبذلك يكتسب جهد الإمارات في قطاع الفضاء أكثر من بعد، فإلى جانب الاستثمار وتأهيل الكوادر المحلية، نجحت الإمارات في أن تكون في مقدمة الدول العربية التي تبعث الأمل في نفوس الأجيال الشابة بإمكانية قهر المستحيل والبقاء على قيد المنافسة في مجالات كثيرة.