الإعلام العربي والمشهد الغربي: حبل العبث قصير

في الفترة الماضية، برزت صورتان مختلفتان من العالم الغربي: الطلاب وهم يحتشدون في الحرم الجامعي للتعبير عن إدانتهم للمجازر التي تحْدُث في غزة ضد السكان المدنيين وتنديدهم بالعنف المفرط في مشهدٍ يُظهِرون فيه تحديا كبيرا للقيود التي سنتها السلطات، وهو مشهدٌ غير مُعتاد في هذه الدول. والصورة الثانية من عالم السياسية الحقيقي حيث تُحقِق الأحزاب اليمينية تقدماً لافتاً في الانتخابات التي جرت، وكذلك في استطلاعات الرأي لتلك التي تنتظر جولاتها خلال الأشهر القادمة.
اهتم معظم الإعلام العربي، ومعه النُخب التي تقدّم نفسها بأنها الحارس الأمين على القضايا العربية، بتحليل المشهدين بطريقة كانت خليطا من الأماني والأيديولوجيا، لهذا ظهرت هذه التحليلات كسيحة عرجاء وغير قادرة على فهم الواقع، وخلفياته المحركة وكذلك ممكناته.
فمثلاً خُصِصت تغطية واسعة، وتحليلات فارهة للطلبة المحتشدين في الجامعات، وهو تحرك أخلاقي بطبيعة الحال، لكنه في سياق التفاعلات الكبيرة على الصعيد العالمي فاصلٍ بسيطٍ وهامشي. ومع ذلك، اتسم تناول وسائل الإعلام العربية بالتضخيم والمبالغة الشديدين، ليُصوِّره البعض كعصى سحرية بإمكانها إعادة المتن الأخلاقي للممارسة السياسية بعد زوال المساحيق عند الاختبارات الحقيقية، بينما سيحاول عزمي بشارة الذي انخرط بشراسة في الفترة الأخيرة للتنظير للتطرف اختراع تخريجه مناسبة (ليست بالجموع الكبيرة، لكنها جموع فاعلة).
الإعلام العربي درج على تناول ما يدور في العالم بطريقة سجالية عبثية تهدف في المقام الأول والأخير إلى إثارة الرأي العام، وليس تنويره، وتسجيل نقاط ضد من بات يعتبرهم مناوئيه وأعدائه الجذريين
ولا يدري المرء وفقاً لأيّ حسابات أو مقاييس تجعله يذهب إلى الجزم بوجود كل هذه القوة السحرية، فأولاً ليست هذه هي المرة الأولى التي تخرج فيها حشود في العالم الغربي للاعتراض على سياسات دوله، وبطبيعة الحال لن تساوي شيئاً مقارنة بالحركات التي ظهرت في نهاية الستينات من القرن الماضي، كماً وكيفاً. وثانياً، لو أخذنا أميركا مثالاً، فعدد الناخبين الذي يقررون توجهات الإدارة الأميركية بلغ في آخر انتخابات ما يفوق 140 مليوناً.
ووفقاً لاستطلاعات الرأي الحالية فإن التوقعات تشير إلى أن الغالبية تميل إلى منح أصواتها لصالح أجندة سياسية قد تكون متعارضة تماماً مع مطالب طلبة الجامعات. وثالثاً لأن السياسة هي الزمن الذي لا يمر، كما يقول روجيس دوبريه، بمعنى أنها ممارسات ثابتة ومتكررة منذ أن عرف الإنسان السلطة وإن كانت تختلف في الوسائل والأدوات والآليات، وبما يتيحه كل عصر.
وقد وثّق المؤرخ اليوناني ثوقيديس من القرن الخامس قبل الميلاد الطريقة التي تُدار بها الممارسة السياسة داخل أسوار المدينة – الدولة وخارجها، فداخلها كان يتمتع المواطنون بكامل حقوقهم، بينما “كان القوي يفعل ما بوسعه، والضعيف يُقاسي ما يجب عليه أن يُقاسيه” خارج أسوارها. لهذا فالجماعة/الشعب الذي لا يستطيع أن يفهم الكيفية التي تنتظم بها الممارسات السياسية الدولية، سيجد نفسه وقد انزلق، وبسهولة كبيرة، إلى “فكر انتحاري” كما هو الحال مع طالبان وحماس والحوثي… إلخ.
وهو تحوّل لن يحل المشكلة، ولن يزيد ولو ذرة في ميزان قضاياهم. بل على العكس تماما، يُساهم في تدمير بلدانهم بصورة لا نظير لها، والمقارنة بين الحال قبل وبعد صارخة. فضلاً عن أن هذه الحركات تتحول إلى أداة سهلة يستخدمها الكبار في ألاعيبهم، ولا مشكلة إن تم إدراجهم – بعد انتهاء صلاحية الاستخدام – في القوائم التي يستحقونها!
في الجهة المقابلة، اتسمت التحليلات التي تم تخصيصها لصعود الاتجاهات اليمينية بالسطحية الشديدة، واقترنت اللغة بالهجاء والتحريض، ودون محاولة تنويرية جادة للغوص في عمق هذه التحولات التي يمر بها العالم من شرقه إلى غربه، لفهمها وتطوير آليات واقعية وإستراتيجيات عملية وبراغماتية تتواءم مع طبيعة التحولات، وتكيّف ما أمكن من الممكنات لصالح هذه الدول وقضاياها العادلة.
قدّم وفد حكومة جنوب أفريقيا في محكمة الجنايات الدولية أكبر مرافعة أخلاقية في تاريخه منذ تخلصه من نظام الأبارتايد العنصري. وفقاً لمنطق الحسابات الأخلاقية البسيط، فإن غالبية المواطنين في جنوب أفريقيا ممن عاشوا تلك التجربة المريرة يُفترض بهم تقديم مكافأة سخية للحزب الحاكم على هذا الموقف الأخلاقي العظيم، لكن ما الذي يُفسِّر تعرضه لأكبر خسارة في تاريخه في الانتخابات الأخيرة؟
وبعد شهرين من أحداث غزة، أجرت جامعة هارفارد استطلاع رأي أظهر أن الغالبية من الشباب يؤيدون “إنهاء إسرائيل وتسليمها للفلسطينيين”، وهي الإحصائية التي احتفت بها وسائل إعلام عربية، كما أفردت مساحة واسعة لاحتجاجات الأكاديميين، والمبالغة في دورها وتأثيرها.
قبل فترة قصيرة، ستنشر نفس الجامعة استطلاع رأي يُظهر بأن الغالبية العظمى من الفئة الشبابية التي تتراوح أعمارها بين 18 – 24 عاماً يؤيدون دونالد ترامب وبـ”حماس”، وهي أكثر فئة منحت “حزب البديل” المتطرف في ألمانيا أصواتها في الانتخابات الأوروبية الأخيرة.
في الإعلام العربي، لن تعثر على تحليل موضوعي للدوافع والأسباب المنطقية التي تُحرك هؤلاء وتجعلهم يذهبون في اتجاهات متعارضة، إما مبالغة في التقدير بما يوافق الهوى، أو مبالغة في التنديد واستلال نظرية المؤامرة لمحاولة القفز عن الوقوع في تناقض يبدو شديد الفجاجة.
وإذا حللنا ما يجري في العالم الغربي من منظور قضايا الشرق الأوسط، وكما يفعل الكثيرون، فإنه أهم سبب علمي لهذا التحول الكبير نحو أحزاب اليمين هو أن أوقات الاضطرابات والأزمات تزيد عدم الثقة، وهي أهم وصفة لنجاح هذه الأحزاب، بالرغم من أن صعودها سيعود بنتائج سلبية على المواطنين إذ تفتقر في العادة إلى البرامج التنموية. وفي نهاية المطاف، ستخدم هذه التحولات في محصلتها النهائية الحكومة المتطرفة في إسرائيل، وفقاً لأبسط الحسابات، وليس العكس.
لقد درج الإعلام العربي على تناول ما يدور في العالم بطريقة سجالية عبثية تهدف في المقام الأول والأخير إلى إثارة الرأي العام، وليس تنويره، وتسجيل نقاط ضد من بات يعتبرهم مناوئيه وأعدائه الجذريين، ولا يُريد أن يرى ما يدور في العالم من تحولات إلا من خلال منظار خصومة أعمى.
وعند التأمل في المنطلقات التي تُحركه بتركيزه على قضايا هامشية وتصويرها وكأنها هي من ستُحرك دفة التاريخ، واعتساف كل معطيات الواقع لاختراع تخريجات متناقضة، لن تجد غاية له سوى سعي أهوج وطفولي لتمرير رسالة على طريقة “والكلام لك يا جارة”، وافرة بكل صنوف التنديد والهجاء، وكأن هذه الرسالة هي سدرة منتهاه! لكنه في الواقع بعيد تماماً عن تحمل أي مسؤولية أخلاقية حقيقية تجاه النتائج الكارثية، وأول جوانب هذه المسؤولية يتمثل في فهم طبيعة التحولات التي يمر فيها العالم، ومخاطرها العالية، وعدم الزج بشعوب المنطقة في لحظة مجنونة كهذه في دوامة من المهالك المجانية!