الإسلاميون يبيحون لتركيا تطبيعا يستنكرونه على الآخرين

لم يستغرب المتابعون للشأن التركي تصريحات الرئيس رجب طيب أردوغان التي عبر فيها عن استعداده لتعزيز العلاقات مع إسرائيل وإعادتها إلى ما كانت عليه سابقا. فالمتغيرات الإقليمية التي بدأت مع انطلاق قطار السلام العربي - الإسرائيلي تنذر بتقويض نفوذ بلاده في المنطقة، إلا أن صمت الإسلاميين على الاندفاعة التركية صوب إسرائيل مقابل مهاجمة دول عربية انخرطت في مسار التطبيع يكشف ازدواجية هذه التيارات التي تعتبر الخطوة محرمة على خصومها ومباحة لأصدقائها وحواضنها.
القاهرة - لا يحتاج انكشاف متاجرة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالقضية الفلسطينية إلى تصريحه بشأن استعداده لتعزيز العلاقات مع إسرائيل والعودة بها إلى ما كانت عليه سابقا، فتركيا في عهد حزب العدالة والتنمية كانت سبّاقة في التطبيع مع تل أبيب، لكن انخراط دول عربية في مسار السلام بعثر أوراق الرئيس ذي التوجه الإسلامي الذي استثمر طوال سنوات في القطعية العربية - الإسرائيلية لتحقيق مكاسب اقتصادية وجيوسياسية وعسكرية لترسيخ نفوذه إقليميا.
ومع إعلان دولة الإمارات والبحرين والسودان ثم المغرب تباعا تطبيع علاقاتها مع تل أبيب، انخرط الإسلاميون في حملات تنديد وتشويه ممنهجة طالت قادة هذه الدول وحكوماتهم، فيما انقلب الذم إلى تبرير عندما تعلق الأمر بحاضنتهم الإقليمية تركيا.
ودعا مفتي ليبيا المعزول الصادق الغرياني مؤخرا إلى مقاطعة دولة الإمارات تزامنا مع تصريحات أردوغان بشأن نيته تنمية علاقاته مع إسرائيل .

الصادق الغرياني: أردوغان ولي أمر المسلمين، فقاطعوا بضائع الدول المطبّعة
ودعا الغرياني، المقيم في تركيا، في ظهوره الأسبوعي عبر قناته “التناصح” إلى مقاطعة سلع البلدان التي وصفها بالمطبعة مع إسرائيل وعلى رأسها الإمارات لأن “صناعات الكيان الصهيوني تُصَدَّر الآن باسم شركات إماراتية” حسب زعمه.
وفي المقابل أشاد كعادته بتركيا التي أطلق عليها تسمية “الحليف التركي”، واصفا أردوغان بلقب “ولي أمر المسلمين” في وقت تعد أنقرة أول دولة إسلامية مطبعة وتربطها علاقات مختلفة مع إسرائيل.
وأضاف الغرياني “ابتز الرئيس الأميركي المنتهية صلاحيته المغرب كما ابتز قبله السودان، فاستجاب للتطبيع بعد أن جمده لسنين، واشترى بقضية القدس والمسلمين ثمنا قليلا”، إلا أنه لم يكشف في المقابل الثمن الكثير الذي كسبته تركيا مقابل التطبيع.
وتقول التقارير إن حجم المبادلات التجارية بين تركيا وإسرائيل في عام 2016 بلغ أكثر من 4.2 مليار دولار، وأنها ارتفعت في العام 2017 بنسبة 14 في المئة. كما أن مدير الطيران المدني الإسرائيلي كشف في عام 2013 أن شركات الطيران التركية تقوم بأكثر من 60 رحلة جوية أسبوعيا إلى إسرائيل، وأنها تنقل بين البلدين أكثر من مليون مسافر سنويا.
وكانت إسرائيل مصدر السلاح الرئيس لتركيا لفترة طويلة، علاوة على التعاون العسكري في مجال التدريب وتطوير الأسلحة.
وكان التعاون العسكري بين البلدين لعقود في ذروته منذ سيطرة القوات التركية على شمال قبرص في عام 1974.
واعتمدت تركيا حينها على إسرائيل في تطوير جيشها، نظرا لعقوبات أميركية وأوروبية فرضت على أنقرة على خلفية المشكلة القبرصية.
وسمحت مزايا التطبيع طيلة عقدين لتركيا ببناء نفوذ في منطقة الشرق الأوسط، يرى مراقبون أن القطيعة العربية الإسرائيلية ساهمت في تغذيته وتكريسه، إلا أن انخراط دول المنطقة في مسار السلام من شأنه خلق قوة إقليمية وازنة تعيد ترتيب الأوراق في المنطقة.
تطبيع الأصدقاء ليس مذموما
كانت تركيا أول دولة ذات غالبية مسلمة تطبع علاقاتها مع إسرائيل سنة 1949 وتدعمت هذه العلاقة مع وصول حزب العدالة والتنمية الإسلامي الحاكم إلى السلطة في تركيا سنة 2002، رغم بعض فترات الفتور في 2008 و2018.
وفي 2016، عبرت حركة حماس، التي تسيطر على قطاع غزة، عن أملها في “مواصلة الدور التركي في إنهاء حصار غزة بشكل كامل”، وذلك في سياق تعليقها على اتفاق تركيا وإسرائيل على تطبيع العلاقات بعد سنوات من القطيعة.
وقالت الحركة الإسلامية في بيان رسمي إنها “تشكر موقف الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان والجهود التركية في تخفيف الحصار المفروض على غزة”.
وكانت أنقرة وتل أبيب توصلتا إلى اتفاق لتطبيع علاقاتهما بعد خلاف استمر 6 أعوام بسبب الهجوم الإسرائيلي على “أسطول الحرية” والذي راح ضحيته 10 من الناشطين الأتراك.
وقالت حماس إنها “تتطلع إلى مواصلة تركيا لدورها في دعم القضية الفلسطينية وإنهاء الحصار بشكل كامل”.
أما عندما تعلق الأمر بتطبيع دولة الإمارات لعلاقاتها مع تل أبيب، اعتبرت حماس أن الخطوة تمثل “طعنة غادرة لتضحيات شعبنا الفلسطيني”.
وقال عبداللطيف القانوع، الناطق باسم الحركة آنذاك إن “الاتفاقية تمثل تجاهلا لمعاناة شعبنا الفلسطيني وتطورا خطيرا في وتيرة التطبيع”.
وتكشف مواقف الحركة من نفس القضية ازدواجية المعايير لدى الجماعات الإسلامية، فالتطبيع التركي محمود ويقابل بعبارات الشكر والثناء أما انخراط الدول العربية في هذا المسار فهو “خيانة” و”طعنة في الظهر”.
ويرى مراقبون أن هذا السلوك يكشف أزمة حقيقية داخل جماعات الإسلام السياسي تنذر بتفككها وعزلتها داخل محيطها، بعد أن وضعت أهم المبادئ التي بنيت عليها قيد “السمسرة السياسية” خدمة للأجندات التركية. فالجماعة نفسها تقوم بالتحريض على الدول العربية إذا ما اتخذت قرارا سياديا سيكون من شأنه أن يساعد الفلسطينيين على نيل حقوقهم من غير اللجوء إلى مواقف متشددة أثبت التاريخ أنها لن تقود الفلسطينيين إلا إلى المزيد من الخسائر على حساب قضيتهم.
وتحولت تركيا عموماً بعد موجات الربيع العربي في دول عدة إلى قبلة لأنصار وقيادات حركات الإسلام السياسي وعلى رأسهم جماعة الإخوان المسلمين.
وبعد إغلاق مكاتبها بدمشق في نوفمبر 2012، اختارت حركة حماس تركيا مقرا رئيسيا جديدا لها في الخارج.
وبينما وجدت حماس في تركيا ملاذا آمنا لقياداتها، اعتبرت أنقرة الحركة بمثابة ورقة للمناورة وأداة للضغط ووسيلة لتحقيق المكاسب في علاقتها مع واشنطن وتل أبيب والاتحاد الأوروبي، فضلا عن مناكفة عدد من الدول العربية.
ويتساءل متابعون عن أسباب صمت حركة حماس على إعلان النوايا التركية التطبيعيّة، مرجحين أن ذلك يعني ربما أنها لم تفاجَأ بالخطوة التطبيعية التركية، أو كانت على عِلمٍ مسبق بها؟
وهناك سؤال آخَر هو: هل يكون هذا التطبيع التركي - الإسرائيلي مقدمة، لتطبيع قطري - إسرائيلي أيضا باعتِبار أن قطر أكبر حلفاء أردوغان وحماس في المِنطقة؟
وعلى إثر التحاق عدد من الدول العربية آخرها المغرب بقطار السلام العربي - الإسرائيلي كشفت مصادر أن قطر تتجه إلى إشهار عقود من الاتصالات السرية والعلنية مع إسرائيل باتفاق لتطبيع العلاقات بين البلدين.
وأكدت المصادر أنه “لن يكون مفاجئا إعلان النظام القطري عن تطبيع العلاقات مع إسرائيل في الأسابيع المقبلة”.
وأضافت ذات المصادر، التي فضلت عدم الكشف عن اسمها، أن “إعلان تطبيع العلاقات بين قطر وإسرائيل ليس متعلقا بما إذا كان سيتم؟ ولكن متى سيتم؟ والتقدير هو أن الأمر أصبح وشيكا".
وكانت الأشهر الأخيرة قد شهدت حركة نشطة بين الدوحة وتل أبيب تحت غطاء بحث الأوضاع في قطاع غزة، حيث زار رئيس جهاز المخابرات الإسرائيلي “الموساد” يوسي كوهين، قطر أكثر من مرة في الأشهر الأخيرة بطائرات خاصة في رحلات جوية مباشرة بين تل أبيب والدوحة.
وتعلم حركة حماس، ذات المرجعية الإخوانية، جيدا أن الدوحة تجمعها علاقات مميزة تجاوزت التنسيق الأمني إلى التنسيق السياسي مع إسرائيل وأن لدى تل أبيب مكتبا للعلاقات في الدوحة يعمل منذ سنوات، لكن المال القطري المتدفق على القطاع يرتب أولويات قيادات حماس هناك.
وأصبحت حقائب المال القطري التي تدخل إلى القطاع عبر إسرائيل نفسها وبموافقة تل أبيب، عاملا أساسيا في صياغة المشهد السياسي والعسكري هناك، ووقودا لتكريس انفصال غزّة إداريا وسياسيا عن باقي الأراضي الفلسطينية، ووسيلة لفض الاشتباكات التي تحدث من حين لآخر بين الجيش الإسرائيلي والجناح العسكري لحماس، وضامنا لتثبيت ما يتم التوصل إليه من اتفاقات على التهدئة.
ويتوجس الإسلاميون عموما من مصالحة خليجية وشيكة بدأت معالمها تتبلور بقيادة السعودية قد يفقدون معها ملاذهم الآمن في الدوحة وهي أحد شروط الدول المقاطعة لعودة قطر إلى حاضنتها المحلية.
وفي صورة تحقق ذلك لن تتبقى لهم سوى تركيا لاحتضانهم وهو عامل مهم يؤكد متابعون أنه من ضمن أبرز أسباب صمتهم عن التطبيع التركي وانخراطهم في حملة التشويه التي تقودها أنقرة ضد الدول المطبعة.
حالة بحالة
تختلف مواقف الإسلاميين مما يعتبرونه الثوابت (القضية الفلسطينية مثالا) وفق الأجندات والحسابات السياسية والموقع الجغرافي المتواجدين فيه إضافة إلى شبكة العلاقات التي يراد تحقيقها والأساليب المتبعة لبلوغ ذلك.
ففي حالة إسلاميي تونس الممثلين في حركة النهضة، ذات الفكر الإخواني، فإن تطبيع الإمارات مع إسرائيل يعتبر “اعتداءً صارخا على حقوق الشعب الفلسطيني وخروجا على الإجماع العربي والإسلامي الرسمي والشعبي ووقوفا مع الاستعمار الاستيطاني الصهيوني”، لكن عندما يتعلق الأمر بخطوة مماثلة من قبل الحلفاء (تركيا) فإن ذلك يدخل في باب "الضرورات تبيح المحظورات" وأما الجيران (المغرب) فإن اللهجة تكون أقل حدة وأقرب إلى المباركة منها إلى التقريع.
واعتبر زعيم حركة النهضة، راشد الغنوشي، أن اتفاق تطبيع العلاقات بين المملكة المغربية وإسرائيل “خروج على الإجماع العربي”.
وأثارت لهجة الغنوشي الهادئة تجاه المغرب تساؤلات حول محددات موقفه من العلاقة مع إسرائيل، خاصة في ظل الانتقادات الحادة التي واجه بها اتفاقات سلام أبرمتها الإمارات والبحرين، في وقت سابق.
وعلق الغنوشي في حوار مع جريدة “الصباح” التونسية المحلية، على الاتفاق المغربي الإسرائيلي قائلا “بخصوص المغرب الشقيق فنحن صدمنا من هذه الخطوة التي خرجت على الإجماع العربي بما عبرت عنه المبادرة العربية”.
ويرى محللون أن تباين مواقف الغنوشي من موضوع العلاقة بإسرائيل، “يعكس ازدواجية في المعايير، توضح أنه لا يتحرك من منطلقات مبدئية، بل بناء على مصالحه السياسية ومصالح جماعته”.
ويشير هؤلاء إلى أن عدم تبني حركة النهضة وأحزاب الإسلام السياسي بصفة عامة موقفا من الرباط مشابها للموقف حيال أبوظبي والمنامة جاء مدفوعا بحسابات سياسية ظرفية، وهو قابل للتغيّر وفق التطورات في المنطقة لأنه جاء بإملاءات قطرية تركية سارعت في التحشيد والتعبئة الإعلامية لتصفية حسابات إقليمية.
صحیفة نيويورك تايمز الأميركیة كشفت نقلا عن مسؤولین أميركیین قولهم إن تونس من الدول المرشحة لتوقیع اتفاق تطبیع مع إسرائیل بعد انضمام المغرب
وبناء على ما تقدم يعتقد متابعون للشأن التونسي أن حركة النهضة سعت في إطار منهجية مدروسة إلى تخفيف لهجتها تجاه جيرانها المغاربة لعدم خلق قطيعة مع حزب العدالة والتنمية المغربي الذي يقود الحكومة المغربية وتجمعها معه علاقة وثيقة، إلا أن ذلك لا يعتبر السبب الرئيسي بل إن تونس حسب تقارير إعلامية أميركية مرشحة بقوة للالتحاق بقطار السلام العربي – الإسرائيلي.
ولا يستبعد هؤلاء أن تنخرط النهضة في التطبيع التونسي – الإسرائيلي بعد أن تتهيأ الأرضية المناسبة لذلك، على أن تقدم ذلك على أنه ضرورة لمواكبة التحولات الإقليمية وعدم البقاء خارج السرب.
وسبق للنهضة أن تنازلت عن عدة مبادئ “إسلامية” بنت شعبيتها عليها وصورت ذلك على أنه ضرورة وطنية ملحة وتدخل في باب المصلحة العامة من أجل ضمان بقائها في الحكم، فكيف بالانخراط في تطبيع العلاقات مع إسرائيل التي زار الغنوشي أهم منصاتها في الولايات المتحدة (أيباك) وجمعته بزعمائها لقاءات عدة.
وبالإضافة إلى ذلك رفضت حركة النهضة الاسلامية (أكبر الكتل النيابية) التصويت لصالح مشروع قانون في البرلمان التونسي يجرم التطبيع مع إسرائيل ما أدى إلى إسقاطه، وهي مؤشرات صلبة تصب في اتجاه قطع النهضة مع المبادئ التي كانت ترفعها “نصرة” للقضية الفلسطينية.
ويؤشر هذا الرفض على تدشين الحركة الإسلامية مرحلة جديدة لا تتبنى القضية سوى بشكل ضبابي وشعاراتي منذ وصولها إلى الحكم في تونس.
وكشفت صحیفة نيويورك تايمز الأميركیة نقلا عن مسؤولین أميركیین قولهم إن تونس من الدول المرشحة لتوقیع اتفاق تطبیع مع إسرائیل بعد انضمام المغرب.
وأضاف المسؤولون أن “من الممكن أيضاً أن تتوسع دائرة الدول لتشمل دولاً في آسيا وأفريقيا، حتى بعد مغادرة الرئيس الأميركي دونالد ترامب منصبه في يناير المقبل”.