الإسكندرية في مرمى سيناريوهات الغرق أو البقاء

يهدد ارتفاع منسوب مياه البحر جرّاء تغيّر المناخ بإغراق أحياء ومواقع أثرية في مدينة الإسكندرية التي نجت من كوارث عديدة منذ تأسيسها قبل ألفي عام، في حين يقول خبراء إن هناك حلولا قد تحول دون وقوع ذلك.
القاهرة - تقف الإسكندرية، عروس البحر المتوسط التاريخية شمالي مصر، في مرمى خمسة سيناريوهات بين احتمال الغرق أو البقاء، في معركة قديمة اتجهت إليها الأنظار بشدة مؤخرا إثر تحذير بريطاني رسمي من احتمال غرق المدينة مع مدينتي ميامي الأميركية وشانغهاي الصينية.
فخلال مشاركته في مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي بمدينة غلاسكو الأسكتلندية الذي ينتهي في الثاني عشر من نوفمبر الجاري، قال رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون “عند ارتفاع الحرارة 4 درجات فقط، نقول وداعا لمدن بأكملها وهي ميامي والإسكندرية وشانغهاي، كلها ستغرق تحت المياه".
وأعاد هذا التحذير تسليط الأضواء على دراسات ومخاوف مصرية ودولية تحدثت قبل أعوام عن خطر يهدد مناطق في الإسكندرية جراء ارتفاع منسوب المياه بسبب زيادة درجات الحرارة نتيجة للتغير المناخي، وذلك بالتزامن مع إجراءات لحماية المدينة تقول السلطات المصرية إنها مستمرة منذ سنوات.
ووفق أكاديمي مصري متخصص في هندسة السدود، يوجد سيناريوهان لاختفاء الإسكندرية هما: النحر (التآكل) والغرق؛ الأول واضح ومعروف، أما الثاني فملامحه تتشكل ببطء، مقابل سيناريو ثالث لبقائها، وذلك عبر ردم مساحات على شواطئ المدينة التاريخية بالرمال.
ويضاف إلى سيناريو الردم أو التغذية بالرمال سيناريوهان آخران لحماية الإسكندرية تقول الحكومة إنها تعمل عليهما منذ سنوات، أحدهما فني متعلق بوضع حواجز خرسانية وعن طريق أجهزة التنبؤ المبكر، أما الثاني فبيئي يختص بدعم المشاريع الخضراء للحفاظ على البيئة، ومن ثم مواجهة التغير المناخي.
والإسكندرية مدينة ساحلية تاريخية أسسها الإسكندر الأكبر قبل أكثر من ألفي عام، وتُعرف باسم “عروس البحر المتوسط” الذي يحيطها من ثلاثة جوانب، وتقع في جنوبها بحيرة مريوط، ولها ميناء شهير، وعايشت عصورا تاريخية عديدة، ويقطنها حوالي 5.5 مليون نسمة حتى منتصف أكتوبر الماضي.
سيناريوهات الاختفاء
قال محمد حافظ -أكاديمي مصري متخصص في هندسة السدود والسواحل الطينية بإحدى جامعات ماليزيا- “ربما يستمر التآكل ويمتد ويتوسع في ساحل الإسكندرية بوتيرة بطيئة لكنها مؤثرة، ما يتسبب مع مرور السنين في حدوث السيناريو الثاني، وهو احتمال غرق شواطئ ومناطق منخفضة في المدينة”.
وحذّر حافظ -وهو أحد أبناء الإسكندرية- من أن معدلات النحر ستزيد بشكل كبير بمرور الوقت، بسبب ارتفاع سطح البحر سنويا بين 10 و15 مم، والدليل على ذلك إضافة كميات جديدة من الحواجز الخرسانية كل عام.
وتابع أن “الحواجز هي الأخرى تتعرض بمرور الوقت للنحر من أسفلها، مما يجعلها تشهد هبوطا غير منتظم، ويستمر زحف ماء البحر مع ارتفاع منسوبه فوقها، مما يهدد كامل الساحل بأن تلتهمه أمواج ضخمة”.

وأوضح حافظ أن الغرق المحتمل سيشمل كل المناطق المنخفضة في الإسكندرية وليس المدينة كلها؛ حيث ستغرق تحت عمود مياه يتراوح بين 0.5 و1.5 متر حتى نهاية القرن الحالي، مما سيؤدي إلى اختفاء الشواطئ ذات المنسوب المنخفض شرقي وغربي الإسكندرية، مثل “المندرة” و”المنتزه” و”الأنفوشي”، وهي فعليا تقع على منسوب يقارب الصفر.
وحذّر من أن هذه الأمواج الضخمة ستغطي كل المناطق المنخفضة، مما سينتج عنه ارتفاع منسوب المياه الجوفية (المالحة) وتوغلها تحت أساسات البيوت، فضلا عن تعمقها على امتداد 1 كيلومتر داخل المدينة وتفاقم أعطال شبكات الصرف الصحي وتهديد مساحات زراعية.
وأضاف أنه في السنوات السابقة كان ارتفاع أمواج البحر في الإسكندرية لا يتعدى 8 أمتار أثناء أسوأ عاصفة شتاء، بينما نسمع حاليا أرقاما رسمية تتحدث عن 10 و15 مترا.
وفي تأكيد على تهديد الأمواج قال محافظ الإسكندرية محمد الشريف خلال تصريح متلفز الأسبوع الماضي إن “المدينة تعرضت لسيول وفيضانات كبيرة منذ 2015 وتزداد كل عام وتؤدي إلى أمواج عاتية مع العواصف".
وتوقع حافظ ألا يحدث احتمال الغرق قبل نهاية القرن الحالي (2100)، محملا التغيرات المناخية وسرعة الرياح وارتفاعا متوقعا لمنسوب البحر المسؤولية الكاملة عن الغرق إنْ حدث.
وأشار إلى أنه في حال حدث ذلك فسيكون الغرق الثاني في تاريخ الإسكندرية، إذ سبق أن تعرضت قبيل عصرها الإسلامي لفيضانات أغرقتها، بما فيها منارة الإسكندرية، التي تم العثور عليها تحت مياه الميناء الشرقي وعُرفت باسم “قصور كليوباترا الغارقة”.
وسبق أن حذرت دراسات لمنظمات دولية من خطر احتمال غرق الإسكندرية -ومنها تقرير لمنظمة التنمية الاقتصادية في 2009، ودراسة للبنك الدولي عام 2007- بسبب التغيرات المناخية، لاسيما وأن مناخ البحر المتوسط تحول من هادئ إلى ما يشبه مناخ الأعاصير التي ضربت سواحل مدنه على غير المعهود والمتوقع.
سيناريوهات البقاء
مقابل سيناريوهي اختفاء الإسكندرية، عبر النحر والغرق، طرح محمد حافظ سيناريو ثالثا لبقاء المدينة، وهو الردم؛ أي التغذية بالرمال، تماما مثلما فعلت هولندا لحماية أراضيها من الغرق لكونها تقع بمستوى سطح البحر.
واعتبر أن سيناريو الردم سيكون حماية مستقبلية حقيقية ومشروعا اقتصاديا متكاملا.
وتابع أن الردم بالرمال المتوفرة في قاع بحر الإسكندرية لا بد ألا يقل عن 4 أمتار فوق سطح البحر على طول ساحلها، لتكوين ما يشبه مدينة موازية بعرض 3 كيلومترات وطول 30 كيلومترا.
وأفاد بأنه عايش هذه الفكرة خلال عمله في شركات ردم البحر في ماليزيا، والتي تقطع الرمال من قاع البحر وترده على الشاطئ لإنشاء يابسة وأرض جديدة والاستفادة الاقتصادية من ذلك.
وأردف "يمكن استخدام الردم في إنشاء جزر صناعية، مثل جزيرة ‘النخيل’ في إمارة دبي، والتي بنيت تماما من رمال تم قطعها من قاع الخليج العربي، وبناء مطار هونغ كونغ الجديد بعد ردم مسطح مائي وجعله يابسة".
وأوضح حافظ أن الإسكندرية لم تكن موجودة في عهد الفراعنة (قدماء المصريين)، وبناها الإسكندر الأكبر في 330 ق.م عبر ردم البحر بين جزيرتين، فهي في الأصل أول مدينة في هذا الكون تبنى بتكنولوجيا ردم البحر قبل 2330 سنة مضت، ولأهميتها التاريخية هي مرشحة اليوم لتلعب دورا تجاريا مثل "جبل علي" في الإمارات أو سنغافورة.
وهذا سيناريو تعمل عليه مصر بالفعل، حيث قال العربي القشاوي -رئيس إدارة التنفيذ في هيئة حماية الشواطئ بوزارة الري- في مداخلة لفضائية مصرية الثلاثاء إنه يجري العمل على حماية الـ69 كيلومترا الأكثر حرجا على سواحل الدلتا من مخاطر تغير المناخ وارتفاع سطح البحر.

وبجانب هذا السيناريو يوجد سيناريوهان رسميان آخران لحماية الإسكندرية، أولهما فني قائم على إنشاء حواجز خرسانية أو ألسنة (ممر) وسط البحر لمواجهة النحر، ضمن مشاريع حماية وإقامة أنظمة تنبؤ مبكر فعالة، وثانيهما سيناريو بيئي عبر دعم مشاريع خضراء تتصالح مع البيئة.وأفاد بأنه "تم الانتهاء من حوالي 60 في المئة من هذا المشروع، حيث تم تنفيذ جسور رملية تمثل حماية 100 في المئة، وتم تشكيلها من نواتج تكريك بحيرة البرلس (شمال)، لتجميع الرمال بفعل الرياح خلال المواسم التي تهب فيها لتشكيل كثبان رملية".
وفي تصريح متلفز الأربعاء قال وزير الري المصري محمد العاطي إن السيناريوهات التي تحدث عنها جونسون “ليست مفاجئة” ومعلومة ومرسومة خطة مواجهتها منذ سنوات، مشددا على أن تحركات الحماية الحكومية ستحول دون غرق الإسكندرية.
وقال جاد القاضي رئيس المعهد القومي للبحوث الفلكية والجيوفيزيقية في تصريح صحافي الجمعة إن الدولة تبذل قصارى جهدها لمواجهة التغيرات المناخية عبر التوسع في زراعة المسطحات الخضراء، إلى جانب التوسع في استخدام بدائل للطاقة المتجددة.
كما كشفت وزيرة البيئة المصرية ياسمين فؤاد في تصريح متلفز أن وزارة الري “خصصت أكثر من 7 مليارات جنيه (445 مليون دولار) خلال السنوات الخمس أو الست السابقة لعمل إجراءات حماية في الشواطئ المصرية، خاصة الإسكندرية، أو تنفيذ جهود كبيرة على صعيد (أجهزة) الإنذار المبكر".
ومن أبزر المشاريع الحالية في الإسكندرية، وفق تقارير صحافية محلية، حماية محيط قلعة “قايتباي” التاريخية من الأمواج العالية والنحر المستمر في الصخرة الرئيسية المقامة عليها، عبر تنفيذ حائط أمواج بطول 520 مترا، وإنشاء مرسى بحري بطول 100 متر، وممشى خرساني بطول 120 مترا، ولسان حجري بطول 30 مترا، فضلا عن تغذية غرب القلعة بالرمال.
ولمواجهة عمليات النحر، التي تسببت في حدوث تصدعات جزئية للحائط البحري الأثري، تتم إنشاءات عديدة أبرزها حائط بحري بطول 280 مترا من الأحجار المتدرجة والكتل الخرسانية.
كما يتم تدعيم وتطوير كورنيش الإسكندرية بإنشاء حائط بحري بطول 835 مترا، فضلا عن إنشاء سلسلة من الحواجز الغاطسة وألسنة بحرية على شكل حرف “L” وأرصفة بحرية.