الإخوان في مصر أكبر المستفيدين من الانقسامات والصراعات الداخلية

تصدير مظهر الصراعات وتكثيف صورة الجماعة المنقسمة على نفسها أسهم في نجاح الإخوان عبر المكر والخداع في الصمود أمام دعوات تطالب ضرورة حظر الجماعة.
الخميس 2022/03/03
الخلافات ورقة مربحة للإخوان

القاهرة- لم تكن بيد قادة جماعة الإخوان حتى في وجود الفاعلين والمؤثّرين منهم أوراق مؤثرة لإعادة إنتاج وتسويق أنفسهم داخل مصر وخارجها بعد تعقّد أزمتهم على العديد من المستويات، لذلك شكلت الانقسامات الأخيرة داخل الجماعة متنفسًا لإخراجها من عزلتها وسياقات فشلها وعجزها.

وأفادت الصراعات التي برع قادة الجماعة في توليدها بين حين وآخر في هيئة فعل ورد فعل وعزل وعزل مضاد وبيان حاد وآخر مرن في إثبات حضورهم إعلاميا، فدون هذه الفعاليات التي تبدو وجبة دسمة من الإثارة وتتفاعل معها الصحف ووكالات الأنباء والفضائيات والمواقع الإلكترونية لم تكن للجماعة مقدرة على أن تبرهن على فعاليتها في مسرح الأحداث وتنفي ما يُشاع عنها كونها باتت ضربًا من الماضي.

ومن الخبرة المُستقاة من تاريخ الجماعة التي برع قادتها قديمًا وحديثًا في المناورة والخداع من خلال الخطط والأساليب المعتمدة على الدهاء والمكر حيث وصلوا بتنظيمهم إلى المستوى الذي وصلوا إليه في التأثير في تحولات ومصائر دول وشعوب منذ خمسينات القرن الماضي وصولًا إلى الثورات منذ سنوات قليلة، فإن توليد أيّ حدث حتى لو كان في ظاهره سلبيًا لن يخرج عن سياقات التخطيط المسبق المصبوغ بالدهاء الإخواني لتحقيق مصلحة أو للخروج من مأزق.

ليسوا إخوانا وليسوا منا

◙ الصراعات التي برع قادة الجماعة في توليدها بين حين وآخر في هيئة فعل ورد فعل أفادت في إثبات حضور الإخوان إعلاميا

استدعت العبارة التي استخدمها البيان الصادر عن جبهة لندن ويقودها إبراهيم منير في التعبير عن رفض جبهة إسطنبول وطرد رموزها، ويقودها محمود حسين، التي تتصارع معها في الظاهر على قيادة الجماعة ونصها “ليسوا منا ولسنا منهم” إسقاطا سياسيا على العبارة الشهيرة التي رددها مؤسس الجماعة حسن البنا “ليسوا إخوانًا وليسوا مسلمين”.

المناسبتان اللتان قيلت فيهما العبارتان متشابهتان والهدف واحد والعقلية التي تدبر وتخطط مدربة على نفس مناهج وأساليب البحث عن حلول خارج الصندوق؛ فمنير كما كان البنا قبله يجمعهما تحد مشترك وسط ظروف تكاد تكون متماثلة، فكلاهما يرغب في استعادة السيطرة على مقاليد الجماعة بعد تغوّل جناحها السري الخاص خلال فترة من الفترات.

وكما خطّط البنا في الظهور بجماعته كما لو كانت تتبرأ من العنف ومن تهور الشباب والاغتيالات السياسية التي تمت بتوجيه منه شخصيًا لينقذ جماعته من الحل والانهيار ويعود بها مؤقتا إلى النشاط الدعوي، يفعل مثله الآن إبراهيم منير الذي يحاول استعادة قيادة الجماعة من هيمنة تيار الكماليين (نسبة للقيادي المتشدد محمد كمال) أو ما يُعرف الآن بتيار التغيير وهما الوجه المعاصر للتنظيم السري الخاص القديم.

سرعان ما ردت جبهة حسين ببيان مرن مؤخرًا يحاول امتصاص حدة بيان جبهة منير “ليسوا منا ولسنا منهم” زخر بعبارات الإخوة والحب في الله والرغبة في رأب الصدع والحفاظ على تماسك الجماعة ووحدتها، وهو ما يعكس إدراك الرجل ومجموعته خطورة لعب إبراهيم منير بازدواجية السلمي والعنيف، والعلني والسري، ومحاولات الأخير التضحية بالجبهة المضادة بوصفها المسؤولة عن العنف والاغتيالات لإخراج التنظيم من المأزق وإعادة تدويره والتسويق له كجماعة عانت أيضا من تهور وانفلات بعض المنتمين لها، وهو ما حاول حسن البنا فعله قديمًا مع التنظيم الخاص الذي كان يقوده عبدالرحمن السندي.

وقد تعكس الصراعات في الظاهر ما يروّج له الكثيرون على أنه تشظ للجماعة وانكشاف تاريخي يشي بقرب نهايتها، لكنها في حقيقتها محاولة من قادتها لإنقاذ الجماعة خاصة فيما يتعلق بإعادة تلميعها في الأوساط الغربية وتقديمها ككيان سلمي معتدل في مواجهة تكثيف اتهامها بالمسؤولية عن العنف والإرهاب الذي طغى خلال السنوات الماضية بعد عزل الجماعة عن السلطة في مصر في أعقاب أحداث يونيو 2013.

◙ إبراهيم منير يحاول استعادة قيادة الجماعة من هيمنة تيار الكماليين (نسبة للقيادي المتشدد محمد كمال)

أدرك قادة الجماعة أن الانهيار الفعلي وما يهدد بقرب نهايتها هو تجفيف منابع تمويلها وتفكيك شبكتها الأخطبوطية ومواردها الاقتصادية وإمبراطوريتها الجمعياتية في أوروبا والولايات المتحدة، لذلك انبرت في الدفاع عن سمعتها في الخارج عبر تكريس الصورة الانقسامية التي توحي بأنها غير موحدة وغير متفقة على ممارسات الأعوام الماضية وهناك أجنحة متمردة ومنفلتة مسؤولة عن الفشل والجنوح لحمل السلاح.

وأسهم تصدير مظهر الصراعات وتكثيف صورة الجماعة المنقسمة على نفسها في نجاح الإخوان في تحييد العامل الخارجي والصمود أمام دعوات شخصيات وجهات غربية بشأن ضرورة حظر الجماعة وتنظيمها الدولي وتجفيف مصادر تمويلها، وفي مقدمتها جمعيات العمل الخيري والمراكز الدعوية التي تستغلها الجماعة في جمع المال عبر التبرعات.

وما أكد هذا النجاح لقادة الإخوان هو استمرار قدرة تنظيمهم على جعل البيئة الغربية والأميركية ملائمة لاحتضانها وإعادة إنتاج نفسها على الرغم من الأزمات الكبرى العاصفة التي واجهتها.

وكان اللعب بخطة البنا القديمة الماكرة (ليسوا إخوانًا وليسوا مسلمين) أي إظهار الانشقاق والإيحاء بأن جناحا سلميا معتدلا يواجه جبهة منشقة تتبنّى العنف، هو ما أسهم في تصدير صورة ذهنية على تماسك الجماعة من الداخل ضد أجنحة متهورة غير مسيطر عليها تنظيميًا، وهذا ما عكسه القرار الأميركي باعتبار حركة “حسم” فقط ككيان إرهابي، وهي جناح الجماعة السري المسلح، وعدم تعميم القرار على الجماعة ككل.

وعلى الرغم من أن العنف الذي جرى ارتكابه قديمًا وحديثًا كان مسارًا مجمّعًا عليه للتعامل مع تحديات رأتها القيادة وجودية، حيث أن الاغتيالات التي نفذها التنظيم الخاص بقيادة عبدالرحمن السندي كانت بتوجيه مباشر من حسن البنا الذي عاد لاحقًا ليتبرأ من هذا النشاط.

ولم تمارس الجماعة العنف بعد عزلها عن السلطة منذ 2013 إلا بعد تشكيل اللجان النوعية المسلحة وإعادة الهيكلة التي أسهم فيها كل قادة الجماعة في الداخل والخارج، بمن فيهم مجموعة لندن، لكن التسويق في توقيت بعينه لوجود انشقاق وصراع طرفه جناح رئيسي يتبرّأ من أجنحة أخرى أتاح في الماضي ويتيح للجماعة الآن القبض على خيوط استراتيجيتها المتكررة في البقاء والاستمرارية.

مكاسب تركيا

بدت وقائع الانقسام والصراع على القيادة وتكثيف الحديث بشأنها وجعلها مادة شبه يومية للإعلام والمنصات والمواقع في الداخل والخارج كعملية إلهاء ممنهجة للتغطية على حقيقة أوضاع الجماعة في الخارج، حيث تشير العديد من الشواهد على تكيفها مع الصعوبات والأزمات وتمكن إبراهيم منير من إعادة هيكلة جماعته تنظيميًا وقياديًا وإعلاميًا وفق تصور سبق ونُشرت أهم بنوده فيما عُرف بوثيقة لندن التي تتبنى غسل سمعة الجماعة وسحب القيادة من الأجنحة العنيفة والحفاظ على هيكلها التنظيمي وعلى مواردها المالية وتجنيبها الصدام مع الأنظمة السياسية.

وأفاد الأمر نفسه أجنحة الجماعة الموجودة في تركيا، ومع أنها الفاعل الرئيسي والمباشر في ممارسات العنف والاغتيالات إلا أنها وظفت صيرورة التقلبات صعودًا ونزولًا لصالحها، وصولًا إلى مقدرتها مؤخرًا على تنظيم فعاليات كبيرة وهامة داخل تركيا في الوقت الذي تحرص فيه الأخيرة على تصدير تصور مفاده التخلي عن الجماعة، أو على الأقل إبداء التحكم فيها وكبح ممارساتها العنيفة والتحريضية.

◙ قد تعكس الصراعات في الظاهر ما يروّج له الكثيرون على أنه تشظ للجماعة وانكشاف تاريخي يشي بقرب نهايتها، لكنها في حقيقتها محاولة من قادتها لإنقاذ الجماعة

ورفعت حالة السيولة داخل الجماعة بصفة عامة وداخل المجموعات الناشطة في تركيا الحرج عن أنقرة التي وجدت في تشظي التنظيم فرصة للترويج لعدم تمكّن النظام التركي من تنفيذ كل مطالب القاهرة تحت زعم صعوبة التعامل مع كيان مفكك ومنقسم، وأن الانقسام لا يقتصر فحسب على ما يجري بين جبهتي لندن وإسطنبول إنما تندرج تحته انقسامات أصغر بين جبهة محمود حسين وجبهة المكتب العام التي يُطلق عليها “تيار التغيير” علاوة على جبهة الإخوان داخل مصر وتيار آخر شبه مستقل يدعو للنشاط الدعوي والاستغناء عن الهيكل التنظيمي.

وظهور الجماعة منقسمة منح رعاتها وداعميها مساحات مناورة سياسية قادت إلى تمكنها من السير بالتوازي في مسارات متناقضة حيث أوحت أنقرة بتقليل مستويات دعمها للجماعة وباستعدادها لتوظيف التنظيم في مقايضات لتسوية الخلافات مع مصر، وفي نفس الوقت استمر احتواء تركيا للجماعة التي لم تتأثر أنشطتها في الداخل كثيرًا بتحولات السياسة الخارجية التركية.

وكما استغلت جبهة إبراهيم منير وجناح الجماعة الدولي حالة الإلهاء بالانقسامات لعمل جملة من التطويرات الإدارية وإعادة هيكلة الملفات المركزية وإنشاء لجان تدير الملفات ذات الأولوية، استغلتها جبهة محمود حسين في الخروج من مأزق السنوات الماضية بأقل الخسائر الممكنة.

ووسط زخم الأنباء الرائجة والمكثفة عن الصراعات والمعارك الداخلية على القيادة كانت جبهة حسين تنقذ ما يمكن إنقاذه وتنقل عناصرها المطلوبة إلى دول أخرى، وفي الوقت الذي بدت فيه متماهية مع التحول التركي بشأن العلاقات مع مصر وأوقفت هجومها وتحريضها على القاهرة نظمت بالتوازي فعاليات تدخل في صميم استراتيجيات البقاء سواء فيما يتعلق بإجراء انتخابات تنظيمية أو تنظيم مؤتمرات لجمع الشمل وترتيب الصفوف أو النشاط الفكري والأكاديمي الذي لا يهمل الدراسات الاستخباراتية والأمنية.

وأجريت انتخابات رابطة الجالية المصرية في تركيا لانتخاب مجلس إدارة جديد وفاز فيها بعض القيادات المحسوبة على جبهة محمود حسين ومنهم من هو على صلة بالقاعدة مثل محمد الغزلاني المدرج على قوائم الإرهاب الأميركية ومحكوم عليه بالإعدام في مصر على خلفية جرائم عنف.

ونشر القيادي الإخواني عصام عبدالشافي في صفحته على فيسبوك وهو رئيس ما يُطلق عليه الأكاديمية الدولية بتركيا تفاصيل الحصول على الدراسات الاستخباراتية ودبلومات في الدراسات الأمنية، في الوقت الذي تدير فيه جماعة الإخوان هذه الأكاديمية التي تأسست منذ خمسة أعوام في إسطنبول ويلقي عدد من قيادات التنظيم الدولي للجماعة محاضرات بها موجهة لأعضائها حول اكتساب المهارات الاستخباراتية والأمنية.

اللعب بخطة البنا القديمة الماكرة

وعلى عكس ما هو رائج بشأن كون الصراعات داخل الإخوان هي ما يقود التنظيم إلى التراجع وربما الانهيار، فإن ما يجري من توظيف لها وتكثيف النشاط تحت غطائها هو في حقيقته ما أنقذ الجماعة وجعلها حاضرة في مشهد الأحداث ومكنها من إعادة تنظيم صفوفها وإدارة ملفاتها.

ولا ينقصها فقط إلا توحيد القيادة لتكون قد تجاوزت شبح التفكك والزوال لتعبر محنة جديدة مضافة إلى المحن السابقة التي عبرتها بأدوات وحيل شبيهة كما في أعوام 1948 و1954 و1965.

ولم يؤثّر كثيرًا ما أُلصق بقادة الجماعة من الجبهات المتصارعة من سوء سمعة نتيجة ما تبادلوه في العلن من تهم مخزية متعلقة بالفساد المالي والخيانة، فقد سبق ووجهت اتهامات مشابهة لحسن البنا نفسه من وكيل الجماعة الأسبق أحمد السكري الذي نشرها في مقالات بالصحف، ومع ذلك ظلت الجماعة قادرة على الترويج لطهرانية وربانية القيادة وتخطي عقبة الأعضاء الناقمين والمغادرين عبر تجنيد واستقطاب أعضاء جدد.

6