الأنا والآخر في ميزان العقل الكردي (2/1)

الكُرد مثل بقية الشعوب النائمة وليست النامية ليس للأنا أو للذات أو للذوات الجمعية المتضاربة أيّ مكان أو أيّ أهمية في دوائر النقد والتناول والمراجعة والإصلاح. بالمقابل، يكاد يكون الآخر (الخصم) الشغل الشاغل والموضوع الأبرز في دوائر النقد الكردية المبدعة في استثناء وتبرئة الذات من إيذاء الذات وإضفاء هالة من القدسية الوهمية وأحادية الجانب عليها، وإقحام الآخر عنوة، في كل مأساة ألمّت بالكُرد، حتى لو تطلّب ذلك ليّ عنق التاريخ وتعليل الحاضر وفق نظرة تقليدية انتقائية مزاجية نائية عن الفهم والاستيعاب العلمي.
وكل من سلط الضوء في الماضي ويسلط الضوء في الحاضر على مواطن ضعف الكُرد ودورهم في حرمانهم من الاستقلال أوائل القرن الماضي وولادة وتفاقم مأساتهم فيما بعد، يصبح خصما لدودا للكرد البعيدين بالسجية والفطرة عن الحنكة والدهاء والاعتدال والوسطية في التفكير والتحليل وتبني القرارات.
لذلك، يستشيط الكردي غضبا عندما يقرأ أو يشاهد أو يسمع مادة تشكك في نصاعة تاريخ ملّته كما خطّه غلاة القوميين الكُرد، أو مادة تثير الريبة في قدرات قومه على إدارة شؤونهم بأنفسهم، سواء في الماضي أو في الحاضر، حتى لو سنحت لهم فرصة الاستقلال والسيادة. ولهذا السبب لا يكنّ الكُرد الودّ والإعجاب لمعظم المستشرقين الذين تناولوا تاريخهم السياسي والاجتماعي والثقافي خلال حقب تاريخية مختلفة.
والسبب في غياب الودّ يكمن في أن انطباعات معظم هؤلاء المستشرقين لم تكن على هوى الكرد ولم تدغدغ مشاعرهم ونزعاتهم القومية، لا وبل كانت مخيبة لآمالهم. لذلك تم اتهام هؤلاء المستشرقين من قبل السواد الأعظم من الكُرد بالتعالي والتحيز والتجني وغياب الموضوعية، وتمت أدلجة القصة استنادا إلى تعريف المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد للاستشراق على أنه “نمط من الإسقاط الغربي على الشرق وإرادة السيطرة عليه”.
الكردي يستشيط غضبا عندما يقرأ أو يشاهد أو يسمع مادة تشكك في نصاعة تاريخ ملّته كما خطّه غلاة القوميين الكُرد
وتم تصوير الموضوع وكأنه شأن شخصي أو كأنه كان هناك ثأر بين أولئك المستشرقين والكُرد. وأنا هنا لا أعني أن كل ما ورد في الاستشراق حول الكُرد هو صحيح بالمطلق، لكنه أيضا ليس خاطئا بالمطلق، وتبقى المسألة خاضعة لمبدأ النسبية وللحسابات السياسية وللسياق الزمني الذي تمت تغطيته من قبل المستشرقين، بالإضافة إلى معطيات الحاضر فيما يخص الأداء والسلوك السياسي الكردي والذي يوحي في مجمله بدقة آراء المستشرقين حول الكُرد.
ومن يرى كل هذا الحنق الكردي الحاد تجاه آراء المستشرقين إزاء الكُرد، سيعتقد أن حاضر الكُرد ذهبي ولامع ولا تشوبه شائبة وجوهره هو على نقيض رؤى المستشرقين. علما أن رداءة حاضر الكرد الذي هو في جُله تكرار لسابق عهودهم في أنماط حديثة ونتيجة عن ماضيهم الذي شارك في صنعه الكرد أيضا هو برهان ساطع على صحة ودقة الكثير إن لم نقل معظم ما ذهب إليه أولئك المستشرقون من غياب الحكمة والنضوج عند قادتهم وطغيان التشرذم والشقاق والتخلف وهيمنة الولاء القبلي والديني والمذهبي على حساب غياب الانتماء القومي والوطني الجامع.
والحقيقة الأكثر مرارة هي أن الراهن الكردي، ونحن في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، هو أسوأ بكثير من ماضيه الذي تناوله المستشرقون ولاسيما في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، ليس فقط من حيث تجزئة كردستان بين أربعة دول، وإنما أيضا من حيث كمية وكيفية التنابذ الداخلي الذي بات العنوان الأكثر مواءمة للكرد، سواء على صعيد العلاقة بين القوى الكردية داخل الجزء الواحد أو على صعيد العلاقة بين الأطراف الفاعلة في مختلف الأجزاء.
ويمكن القول، إنه إذا كانت كردستان مقسمة بشكل غير رسمي وغير معترف به دوليا إلى أربعة أجزاء بين أربعة دول، إلا أن كل جزء من هذه الأجزاء الأربعة مقسم من الناحيتين النفسية والمعنوية الى عشرات الأجزاء بين الكُرد أنفسهم. ومن باب الفانتازيا أقول، إذا شاءت الأقدار، أو بالأحرى إذا شاءت إرادات كافة الدول العظمى إلى تسليم مفاتيح الدولة المستقلة ذات السيادة للكُرد ابتداء من الغد، عندها قد نشهد حروبا أهلية كردية طاحنة حول الزعامة والنفوذ لسنوات إن لم يكن لعقود بسبب الخصومة والضغينة التي جبل عليها الكُرد حتى باتت مفخرة وملحمة في الذهن والسلوك الجمعي، وبروز الانتماءات الجزئية المتضادة على حساب غياب الانتماءات القومية الجامعة والشاملة.
الكُرد مثل العرب مهووسون بنظرية المؤامرة ويجزمون بأن الآخرين جميعا يتآمرون عليهم وهم ضحايا هذه المؤامرة الكونية التي بدأت في اتفاقية لوزان 1923 ولم تنته بعد
وهذا ما حدا بكاتب متعاطف مع القضية الكردية مثل جوناثان راندل أن يكتب في نهاية مقدمة كتابه ‟أمة في شقاق: دروب كردستان كما سلكتها”، “ثمة صبغية ‛كرموزوم’ شاذة في جينات الكرد تسبب فيما يسميه الهنود المولعون باستعمال العبارات المنمقة بالنزعات الانقسامية”. وبدوره حدا هذا الإدمان على الشقاق المزمن بالكثير من الكُتّاب الرحالة ورجالات الدولة في الماضي والحاضر إلى الاستنتاج بأن الكُرد “لا يصلحون للإدارة” كما كتب ذلك الضابط الإنجليزي سيسل أدموندز الذي كان يخدم في العراق أوائل القرن العشرين في كتابه “كورد، أتراك، عرب”.
العوام والخواص من الكُرد ينطلقون فيما يتعلق الأمر بقراءة ماضيهم المأساوي وفهم حاضرهم الأكثر مأساوية من مسلمات لا تقبل التأويل والجدل. وتتلخص في أنهم كانوا بالمطلق ضحايا الآخرين الأقوياء المنتصرين في الحرب العالمية الأولى الذين قسّموا وطنهم كردستان إلى أربعة أجزاء وألحقوها بدول قديمة ومستحدثة. وراهنا هم ضحايا الدول التي ألحقوا بها والتي كانت إفرازات أولئك المنتصرين الذين وضعوا خرائط جديدة للمنطقة تناسبت مع مصالحهم ولم يكن للكُرد موقع فيها.
بطبيعة الحال، ينبري كل هذا الاسترسال والإبداع والبراعة في تجريم الآخر وشيطنته دون أيّ إشارة أو إيماءة الى دور الكرد أنفسهم في خلق مأساتهم. هكذا كان وما زال مجهر العقل الكردي، يزداد نشاطا واستنفارا وتألقا عندما يسلط الضوء على دور الآخر في ولادة مأساة الكرد. هذا المجهر الذي يكتشف ويختلق ويضخّم ويفبرك خطايا الآخرين بسرعة قياسية تفوق أحيانا سرعة الضوء، لكنه يصاب بالشلل والعجز والهمود الكامل عندما يأتي دور الذات أو الذوات الكردية المتطاحنة، فتتبدل السرعة الضوئية إلى سرعة الحلزون، لأن مجهر العقل الكردي مبرمج فقط حول توجيه الشعاع نحو الآخر على غرار كافة الشعوب المتيّمة بالمراوحة في المكان والتي تعني ضمن ما تعنيه التقدم نحو الوراء.
فالذات الكردية، أو بالأحرى الذوات الكردية المتنافرة، مقدسة عند الأكراد، ولا يجوز المساس بها البتة، لا بل ولا يجوز إقحامها في دائرة الشك والمسؤولية حول ما آلت إليه أحوال الكرد وهي بريئة تماما ولا تتحمل أيّ وزر حول تشظي وطن الكرد وعدم تمتعهم بالدولة المستقلة ذات السيادة. فالكُرد مثل العرب مهووسون بنظرية المؤامرة ويجزمون بأن الآخرين جميعا يتآمرون عليهم وهم ضحايا هذه المؤامرة الكونية التي بدأت في اتفاقية لوزان 1923 ولم تنته بعد.
والذات أو الذوات الكردية الجمعية المتضاربة بريئة من جريمة حرمان الكرد من الدولة المستقلة في الماضي والحاضر براءة الذئب من دم يوسف بن يعقوب.