الألعاب الأولمبية.. من الأسطورة الإغريقية إلى الإيمان بقيم التعدد

الألعاب الأولمبية التي تقام فعالياتها هذه الأيام، في دورتها الحادية والثلاثين (في النسخة الحديثة) بمدينة ريو دي جانيرو البرازيلية، لم تكن طيلة تاريخها مجرّد دورة رياضية تتنافس فيها أمم العالم من أجل الفوز والميداليات، بل كانت فعالية تذهب أبعد من ذلك؛ هي أولا استحضار للتاريخ الإغريقي القديم حيث كانت الألعاب الأولمبية مهرجانا للطقوس الدينية التي تقام على شرف آلهة الإغريق، زيوس وهيرا، لكن الألعاب الأولمبية بعد لحظة بيار دي كوبرتان الفرنسي الذي أقنع العالم عام 1896 بإعادة تنظيم الألعاب، تحولت إلى مناسبة رياضية عكست تعدد العالم وتنوع ألوانه ولغاته وأديانه، لكنها كشفت أيضا وفي دورات عديدة عما يسود العالم من تباينات وصراعات ومشكلات سياسية.
الاثنين 2016/08/15
الألعاب الأولمبية الحديثة مازالت وفية لروح أثينا

الألعاب الأولمبية إحالة مباشرة على جبل “أولمب” أو “أولمبوس”، وهو جبل في اليونان حمل كل اعتقادات الإغريق بأن آلهتهم؛ زيوس وهيرا وأبولو وديميتير وديونيسيوس وأثنيا وغيرها، يعيشون في قمة الجبل، لذلك بدأ الإغريق في تنظيم ألعاب تقام كل أربع سنوات تقربا لآلهتهم وتضرعا لها بتقديم القرابين. كانت الألعاب الأولمبية التي بدأ تنظيمها في العام 527 قبل الميلاد، متصلة أو نابعة من الميثيولوجيا التي كانت تسطر الحياة في العالم القديم، وكان لكل ركن من العالم القديم آلهته ومعتقداته التي يفاخر بها، ويسعى إلى “تصديرها” إلى المناطق الخاضعة لهيمنته.

وتشير بعض المصادر التاريخية إلى أن الألعاب الأولمبية القديمة بدأت بسباق بسيط لبعض الفتيات وانتظم السباق على شرف الآلهة هيرا (زوجة زيوس) إلا أن رهبان معبد زيوس رأوا في الأمر استنقاصا من إلههم فقرروا تنظيم ألعاب أكبر وأهم تقام على شرفهم، وصنعوا تمثالا ضخما لزيوس.

انطلقت الألعاب وتمحورت حول معتقدات الإغريق وإيمانهم بآلهة متعددة، وكانت تصاحبها فعاليات ثقافية وسياسية منها تخليد أسماء الفائزين في عملة معدنية تسك للغرض، وإقامة طقوس دينية تعبدية وتقديم قرابين من قبيل عدد كبير من الثيران لزيوس، كما تبرم المعاهدات السياسية والاتفاقيات التجارية بين المدن الإغريقية وحتى مع بعض الدول المجاورة. أضفى الحضور المتنوع للمدن الإغريقية في الألعاب الأولمبية طابعا تنافسيا له ملامح سياسية، إذ تفاخر كل مدينة بأبطالها الفائزين وتنظم لهم احتفالات عند استقبالهم.

ارتباط الألعاب الأولمبية، قديما وحديثا، بالشعلة الأولمبية نابع بدوره من صميم التصورات الأسطورية التي ترمز أو تخلد فكرة قيام بروميثيوس بسرقة النار من زيوس (رب الأرباب في الميثيولوجيا الإغريقية) وتسليمها للبشر، حيث كانت الأسطورة تقول إن بروميثيوس مكلف من قبل زيوس بخلق المخلوقات الأرضية إلا أنه حلق الإنسان وأضفى عليه صفات عديدة من صفات الآلهة، ما أثار غضب زيوس عليه.

الألعاب الأولمبية ليست مجرد مناسبة للتنافس الرياضي بل هي فعالية تتضافر فيها الأوضاع السياسية والاقتصادية للعالم

النار المشتعلة كانت من الرموز المشهورة في الميثيولوجيا الإغريقية وترمز إلى قيام بروميثيوس بسرقة النار من زيوس وإعطائها للبشر، إذ كان بروميثيوس وحسب الأسطورة موكلا من قبل زيوس بخلق المخلوقات الأرضية، فقام بخلق الإنسان على صفة الآلهة مما أدى إلى غضب زيوس عليه. لذلك احتفى الإغريق بالنار وحولوها على شعلة أولمبية تصاحب افتتاح الألعاب وتبدأ طقوس إضاءة الشعلة من مذبح هيرا قبالة معبد زيوس في أولمبيا، ويتكفل الكهنة بالدعاء لإله الشمس أبولو بأن يضيء الشعلة باستخدام مرآة مقعرة لتكثيف حرارة الشمس.

انطلاق الألعاب الأولمبية كان من فضاء الإيمان بتعدد الآلهة، لذلك كان انقطاعها أو توقفها قرارا سياسيا نابعا من توقف الإيمان بالوثنية، وتلك كانت مرحلة مهمة في تاريخ العالم القديم.

قرر الإمبراطور الروماني تيودوروس الأول في العام 393 ميلادي، إيقاف الألعاب الأولمبية التي اعتبرها تكريسا للوثنية وكان قراره في إطار سعيه لتكريس الديانة المسيحية، ديانة رسمية للإمبراطورية الرومانية. ومنذ ذلك التاريخ توقفت الألعاب الأولمبية في نسختها القديمة، لتنتظر قرونا عديدة قبل أن يعيد الفرنسي بيار دي كوبرتان إحياءها من جديد في العام 1896 بمنطلقات مختلفة وغايات مغايرة، بعيدة عن البيئة الميثيولوجية الأسطورية التي ولدت فيها.

عادت الألعاب الأولمبية في نسختها الجديدة لتحمل شعارات جديدة تتناسب مع مقتضيات عصرها. فكر الفرنسي دي كوبرتان في قيم السلام والتعدد واحترام الآخر وناضل من أجل إعادة تنظيم الألعاب، وكان ذلك في العام 1896 وتم الحرص على تنظيمها في مهدها القديم: أثينا. نضال دي كوبرتان من أجل إشاعة قيم السلام والاختلاف، الذي كان يردد “إن أهم شيء في الألعاب الأولمبية ليس الانتصار بل مجرد الاشتراك...

ارتباط الألعاب الأولمبية بالشعلة الأولمبية نابع من التصورات الأسطورية التي تخلد قيام بروميثيوس بسرقة النار

وأهم ما في الحياة ليس الفوز، وإنما النضال بشرف”، والذي تكلل بعودة الألعاب الأولمبية إلى سالف تنظيمها، نقل فكرة الألعاب من طقوسها الدينية الوثنية الأسطورية، إلى فضاء التنافس الرياضي بين أمم العالم، وعبر ذلك عن تحول كبير شهده العالم مع ظهور القيم الحديثة ومفاهيم الوطن والانتماءات الحديثة، إلا أن الألعاب الأولمبية الحديثة لم تنجُ، رغم نبل مقاصدها، من التأثر بما ساد العالم من تباينات سياسية واقتصادية كبيرة.

حيث تأثرت الألعاب بالأحداث الكبرى التي شهدها العالم المعاصر، من الحربين العالميتين الأولى والثانية، إلى الحرب الباردة وما رافقها من صراع بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفييتي انعكست على الألعاب الأولمبية مقاطعة وتنافسا حادا واستقطابا كبيرا، (الجدير بالتذكير هنا حادثة اشتباك لاعبي كرة الماء السوفيات والمجريين في المسبح الأولمبي في ما سمي “مباراة الدماء في الماء” التي حدثت في أولمبياد ملبورن وستوكهولم عام 1956 التي انتظمت في دولتين تأثرا بالتوتر السياسي) وصولا إلى عصر العولمة والتكنولوجيا التي طرحت إشكاليات جديدة في الألعاب الاولمبية من قبيل الهويات ومشكلات الأقليات واللاجئين والمثليين وغيرها من القضايا التي تثار مع كل دورة من دورات الأولمبياد.

الألعاب الأولمبية ليست مجرد مناسبة للتنافس الرياضي بل هي فعالية تتضافر فيها الأوضاع السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية للعالم. يكشف العالم عن وجهه في الأولمبياد، ويعيد تمثل تعدد أعراقه ولغاته وألوانه، ويختصر ذلك في تنافس محموم يبدأ من اختيار المدينة التي تنال شرف التنظيم، وصولا إلى الرياضي الذي يقلد بميدالية الفوز. وبين الفوزين لا تحجب الألوان ما يسود العالم من تباينات وصراعات ومشكلات سياسية.

12