الأكراد السوريون وأرض الأحلام
سجل تاريخ الأكراد بعد “ميديا” و”زرادشت” محطات مهمة رسمت معالم الأحداث التي أثرت في تاريخهم ومصيرهم، فعاشوا معزولين بشكل نسبي، وغارقين في ذاكرة أمجاد وطنهم الكبير ومحاولات نيل الحقوق.
إن وجود الأكراد كأكبر ثاني قومية لم يساعدهم في واقع التقسيمات القطرية العربية واستلام الديكتاتوريات المنطقة ورفضها لحقوق الشعوب، وإيمانها بسياسة العصا متناسية أن العصا قد تزيد من حالة التأزم والانعزال والتهميش وتشعل الرفض للآخر، وهو ما زاد من غربة الأكراد وجعل شعورهم بالانتماء والمواطنة ممجوجا وباهتا مقارنة بانتمائهم الصلب لقوميتهم وحلمهم بإقامة دولتهم “كردستان الكبير”، التي أثمرت حتى الآن “كردستان العراق” كدولة داخل دولة تتآكلها الحروب الطائفية، وفي تركيا اقتحم الأكراد البرلمان بصفتهم الحزبية، عبر انتخابات أعطتهم كتلة من ثمانين نائبا في تطور غير مسبوق.
أما في سوريا فالمتغيرات الدولية وحالة الفوضى والاستنزاف السوري، شرعت الأبواب لحدوث أزمات وهزات كبيرة، وضعت جميع الدول على أبواب خرائط إن لم تكن جغرافية فهي سياسية اقتصادية لها اصطفافاتها وأثـرها على التوازنات الإقليمية والدولية، وتم توظيف العامل الكردي في المعادلات الإقليمية سواء لمنعهم من التحول إلى ورقة حليفة للنظام السوري أو دفعهم للانخراط أكثر ضد هذا النظام، فبرز الأكراد كلاعب دولي على مسارات متنوعة ضمن حالة ضبط التوازن السياسي بين تركيا وإيران وسوريا والعراق، وكذلك بين الحركات القومية الكردية في المنطقة.
أدى نجاح أكراد سوريا في التصدي “لـداعش”، إلى فرض أمر واقع جديد في العديد من المناطق في الشمال الشرقي لسوريا، إذ أقاموا حكمهم الذاتي وشكلوا مؤسسات سياسية وأمنية وإدارية وخدمية وتشريعية تدير المناطق الكردية، وسط سيطرة واضحة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، وهو فصيل يتبع عمليا لحزب العمال الكردستاني، ويحتكر ساحة أكراد سوريا بجناحه المسلح وحدات الحماية الشعبية، التي تواصل عملياتها للسيطرة على كامل الشريط الحدودي مع تركيا ومحاولة الربط بين ثلاث مناطق كردية من ريف الحسكة أقصى الشمال الشرقي، مرورا بتل أبيض إلى كوباني، وصولا إلى عفرين في الشمال الغربي، وهذا سيؤثر بلا شك في ملامح سورية المقبلة.
بات الأكراد يواجهـون تهمـة الانفصـال من قبِل جزء كبير من أطياف الشعب والمعارضة السورية نتيجة نهجهم التمددي الواضح، وتهمة ارتكابهم فظائع بحق المدنيين لترهيبهم وإخضاعهم بالقوة لسلطتهم، واتهامهم بالتطهير العرقي، وتهجيرهم للعرب والتركمان من تل أبيض بمساعـدة التحالف الـدولي، الذي أتى مترافقا مع زيادة الانقسام الاجتماعي الأهلي وزيادة الشرخ الطائفي، واحتداد الهويـات الإثنية والطائفية في سوريا عموما، فالعروبيون غرقوا في ثقافة الأمـة والقومية العربية، والأكـراد تعاظم ولاؤهم “لكرديتهم”، وتردادهم للمظلومية التاريخية لتبرير حالة الكره التي باتت تتجسد في مدن الشمال السوري، وتكرارهم لخطـاب أكراد العراق عبر الحديث عن حق تقرير المصير والفيدرالية والحكم الذاتي، رغم إدراكهم أن الحديث عن دولة كردية سورية يبدو شائكا لأسباب محلية وإقليمية ودولية، ولأسباب ذاتية كالتوزع الديمغرافي المنتشر في الشمال السوري، والتداخل السكاني والاجتماعي الكبير بين الأكراد والعرب وباقي الإثنيات، فأرض الأحلام ليست خالية من البشر، وليست منحة استعمارية كما لواء اسكندرون السليب، وهذا ما تدركه بعض الفصائل الكردية، لكن ما يجري في شمال سوريا بين العرب والأكراد يعني أن نار الفتنة ستندلع بين مكونات الجزيرة بشكل كارثي.
إن سياسة بعض الأطراف الكردية ليست قائمة على رؤية الحقيقة، بل على التشويه وخلط الأوراق ورهانات الأحلام، فبزوغ نجم “كردستان الكبير” كدولة لن يتم إلا ضمن تقسيمات جغرافية جديدة للمنطقة ككل، وإن التخندق والعداوات والانغلاق ستضعهم على شفا الهاوية وتضيع قضية الحقوق المشروعة للشعب الكردي في مهب الريح كما جرت العادة تاريخيا.
كاتبة ورسامة سورية