الأقليات.. غائبة في الحقوق حاضرة في التأثيم

نحن إزاء تقدّم سياسي ملفت لليمين؛ إذ تتبنّى تيارات اليمين وأحزابه مقولات الاحتجاجات، وتلتقط منها ما يفيد نقدها لسياسات الرئيس الفرنسي.
الثلاثاء 2018/12/04
الحق في الاحتجاج بصرف النظر عن اللون أو الدين

في الاحتجاجات الفرنسية الأخيرة، التي حمل لواءها أصحاب السترات الصفراء، تجدّدت المقولات العنصرية مرّة أخرى واتخذت منطلقاتها من الاحتجاجات ذاتها. مفارقة تحركات السترات الصفراء أنها اندلعت من دوافع اقتصادية مباشرة ومحددة، وانطلقت في رفع سقف مطالبها تدريجيا، وصولا إلى تبنّي المظاهرات الأخيرة الدعوة إلى إسقاط الرئيس إيمانويل ماكرون ذاته. على أن وضوح المنطلقات لم يشفع لتلك التحركات بأن تظل في دائرة الاحتجاج الخالي من الشوائب “العنصرية”.

كانت مسألة الأقليات، مغيبة في الدوافع، حاضرة في التقييم وستكون ماثلة حتما في المآلات. ورغم مسارعة اليمين الفرنسي، والأوروبي عموما، إلى مساندة التحركات إلاّ أنّ وجود أعلام أقطار عربية، وهتافات عربية، فضلا عن الحديث عن وجود “التكبير” هي عناصر وفّرت للمعارضين للاحتجاجات مسوغات للقول بأن مشاركة عناصر من الجيل الثالث للهجرة تعبّر عن فشل هؤلاء، كما الدولة الفرنسية أيضا، في الاندماج، ووفّرت أيضا مسوغا “ميدانيا” للقول إن مشاركة الأقليات هي التي أضفت على التحرّكات طابعها العنفي.  نحن إزاء تقدّم سياسي وميداني ملفت لليمين؛ إذ تتبنّى تيارات اليمين وأحزابه الاحتجاجات، وتلتقط منها ما يفيد نقدها لسياسات الرئيس الشاب، إلا أنها تلتقط من الاحتجاجات نفسها ما يعزّز أطروحاتها المجترّة منذ سنوات حول الهجرة، وتاليا قضايا الأقليات والإسلام والاندماج، ما يحيل إلى مسارعة لجني القطاف السياسي للاحتجاجات بنفس قدر المسارعة للتبنّي.

يكفي أن يحضر علم جزائري واحد في تحرّك صغير في شارع فرعي لكي تتراجع كل المقولات السابقة عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للفرنسيين، تلك التي بدّدتها سياسات ماكرون الاقتصادية، وأودت بها إلى منحدر سحيق، لتحلّ محلّها “الأدلة” على ضلوع المهاجرين في مسار عنفي فوضوي حادّ بالاحتجاج عن أهدافه النبيلة، والمفارقة المضافة في هذا الصدد أن المساندين والرافضين لمنجز السترات الصفراء، يُضمرون الاتفاق على أن زيغ التحرّكات عن السلمية التي لطالما عرفت بها مظاهرات فرنسا، يعود إلى مشاركة المهاجرين، مع قول هامس بمشروعية مطالبتهم كونهم يشتركون مع الفرنسيين الأقحاح ذات الظروف والأوضاع، وهم تبعا لذلك “مجموعة غوغاء لا علاقة لهم بالتعبير السلمي عن مطلب مشروع″ كما قال ماكرون السبت الماضي.

في خلفية المشهد يمين فرنسي أوروبي حانق يتقدم في الساحات وفي التنظير موليا ظهره، حقيقة، لمشروعية الاحتجاج، وإنما هو يصفي حسابا سياسيا صرفا مع ماكرون، وفي التنظير يقدمُ وصفة للحدث الفرنسي لا تخلو من ازدواجية وانتقائية معتادة: التظاهر مشروع وحق أساسي مشتق من القيم الفرنسية، طالما كان فرنسيّ المنبت، وبمجرد عرض فيديو أو صورة لشاب بملامح عربية أو علم عربي أو هتاف “ديني مسيّس″ كما وصفت إحدى القنوات التلفزيونية، فإن الأمر يتغيّر ليُطرح الصداع الفرنسي المزمن في طرحه اليميني: الاندماج وعجز المهاجرين عن استيعاب القيم الفرنسية.

مشاركة “الملثمين وتعمّدهم التخريب في الشوارع الباريسية، وضلوع مخربين أفسدوا سلمية الاحتجاجات وسحبوا قسما من مشروعيتها”، هكذا رددت الأصوات الرافضة للتحركات، وهي مقولات أو مشاهد وفرت للتيارات اليمينية وجاهة أفكارها وأعادت لها أحقية القول بوقف أسلمة أوروبا، وهو موقف يميني لا يقتصر على فرنسا بل يتعداها إلى بلجيكا وبولندا وإيطاليا وألمانيا وغيرها.

على أن هذا الموقف اليميني يجد له صدى في بعض المواقف العربية، التي تسرعت أو تكاسلت فكريا في اعتبار الحدث الفرنسي ضربا من ضروب الربيع العربي بنسخة أوروبية، أو أن الأمر عقوبة إلهية إزاء المشاركة الفرنسية في تدمير أقطار عربية، إضافة على تسرع مقابل يعتبر أن ما يسود الشوارع الفرنسية من صنيعة الإخوان في فرنسا.

يتقدمُ اليمين، وتتبادل الأصوليات التأثير والتأثر، في تخادم غريب بين الأفكار المتطرفة. اليمين الأوروبي الذي يتوجس من أسلمة أوروبا يتناسى أن المواطن الفرنسي، بصرف النظر عن لونه أو دينه، يشترك في امتلاكه الحق في الاحتجاج مع مواطنيه وإن حمل اسما عربيّا أو لونا أفريقيّا. واليمين العربي الذي “يتشفى” من الحريق الفرنسي ويهلل لقرب سقوط ماكرون وإدارته، لا يعرف أنه يوفر العدة الفكرية والسياسية لليمين الفرنسي ولا يدرك أن “إسقاط النظام الفرنسي” سيعني صعودا حتميا ليمين أكثر راديكالية تجاه المهاجرين والأقليات. تبدأ أزمة العقل السياسي بالانتقائية، التي تنتج قراءات عديدة متناقضة لمشهد واحد.

وهنا يصبح المهاجر الفرنسي مشاغبا وفوضويا والفرنسي الأصيل مدافعا شرعيا عن حقوق الأجيال القادمة.

12