الأصولية تتغول في مجمع تشخيص مصلحة النظام بإيران

القاهرة – لم تعتد إيران منذ اندلاع ثورتها الإسلامية عام 1979 على سيطرة تيار سياسي واحد على مؤسسات صنع القرار، ودائما يسعى النظام إلى إعادة ضبط إيقاع التوازنات السياسية، من خلال منح الفرصة للتيار الأضعف لتعزيز نفوذه من جديد وعبر العمل على تكوين أجنحة سياسية متنافسة داخل التيار الأقوى.
من هنا يمكن تفسير حرص المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي على إعادة تشكيل مجمع تشخيص مصلحة النظام بغالبية واضحة للمحافظين الأصوليين، وفقا للقرار الذي أصدره في 14 أغسطس الجاري.
وعين خامنئي رجل الدين المحافظ محمود هاشمي شاهرودي في منصب رئيس المجلس خلفا لأكبر هاشمي رفسنجاني الذي توفي في 8 يناير الماضي، وأبقى على قائد الحرس الثوري الأسبق محسن رضائي في منصب أمين المجلس، واختار مسؤولين حاليين وسابقين وعددا من رجال الدين لعضويته.
ومن بين الشخصيات الجديدة التي انضمت إلى المجمع للمرة الأولى، المرشحان الخاسران في الانتخابات الرئاسية الأخيرة إبراهيم رئيسي المشرف على العتبة الرضوية ومحمد باقر قاليباف رئيس بلدية طهران السابق ومحمد باقري رئيس أركان القوات المسلحة، بينما حافظ رؤساء السلطات الثلاث (ومنهم روحاني) وفقهاء مجلس صيانة الدستور (وعددهم ستة) على عضويتهم.
وتشير الاختيارات في مجملها إلى أن خامنئي يسعى إلى إعادة تعزيز نفوذ المحافظين الأصوليين من جديد، بعد أن تسببت نتائج انتخابات مجلس الشورى ومجلس الخبراء والرئاسة التي أجريت في فبراير وأبريل 2016 ومايو 2017 على التوالي، في تراجعه بشكل ملحوظ لصالح تيار المعتدلين الذي يضم الجناح الموالي للنظام من تيار الإصلاحيين والجناح التقليدي من تيار المحافظين.
ورأى المرشد أن النتائج البارزة التي حققها المعتدلون في تلك الانتخابات لا تصب في صالح تكريس موقعه باعتباره الرجل الأول داخل النظام، كما يمكن أن تدعم من فرص مشاركتهم في إعادة صياغة الترتيبات والتوازنات السياسية خلال المرحلة القادمة، التي قد تشهد استحقاقات أكثر أهمية، أبرزها اختيار خليفة لخامنئي نفسه، في ظل تقدمه في السن وخضوعه لعملية جراحية على البروستات في سبتمبر 2014، بشكل دفع النظام إلى إعداد قائمة بمرشحين محتملين لتولي منصب المرشد خلفا له.
معظم أركان المجمع الذين تم تعيينهم طاعنون في السن، بشكل يوحي بوجود فجوة جيلية سوف يعاني منها النظام
تضخيم متعمد
أبدت إيران ووسائل إعلامها اهتماما خاصا بقرار تشكيل المجمع، لدرجة دفعت جهات عديدة إلى المبالغة في تقييم موقعه داخل النظام، لكن في ثنايا هذا القرار، كانت هناك إشارات إلى أن المرشد لا يمنح المجمع أهمية أكبر من تأثيره الفعلي على الأرض.
وكان من اللافت أن القرار صدر بعد ثمانية أشهر من وفاة رئيس المجمع هاشمي رفسنجاني في يناير 2017 ونحو سبعة أشهر من انتهاء فترته السابقة، بما يعني أن خامنئي لم يكن في عجلة من أمره عندما أصدره، وأنه لم تكن هناك مستجدات تفرض الإسراع في إعادة تشكيله.
وترتبط أهمية المجمع في المقام الأول بوجود رفسنجاني، لدرجة دفعت البعض إلى التكهن بأن الإبقاء على هذه المؤسسة، التي لا تمارس دورا فعليا على الأرض منذ فترة طويلة رغم السلطات العديدة التي يمنحها لها الدستور، كان من أجل عدم إخراج رفسنجاني من النظام، بعد أن هزم في الانتخابات الرئاسية عام 2005 وتعرض لضغوط قوية نتيجة دعمه لمطالب ما يسمى بـ”الحركة الخضراء” في الانتخابات الرئاسية عام 2009.
ويوحي قرار المرشد بالإبقاء على الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد عضوا في المجمع، رغم خلافاتهما الأخيرة، بأن الأول لا يعول كثيرا على الدور الذي يمكن أن يقوم به المجمع في المرحلة المقبلة.
وحتى لو كان خامنئي يسعى إلى حصار تيار المعتدلين وتقليص قدراتهم، فإن لديه أدوات أخرى يستطيع من خلالها تحقيق ذلك، على غرار مجلس صيانة الدستور، الذي يمتلك صلاحية البت في قوانين وتشريعات مجلس الشورى وتبيان مدى مطابقتها الدستور ويستطيع رفضها مستندا لاعتبارات فضفاضة.
كما أن نفوذ المعتدلين في البرلمان لا يعني عدم قدرة المحافظين الأصوليين على عرقلة مشروعاتهم، بدليل نجاح الأخيرين في الاحتفاظ برئاسته، على نحو ما حدث في مجلس خبراء القيادة، المسؤول عن تعيين وعزل المرشد، الذي لم يمنع الفوز البارز للمعتدلين في انتخاباته الأخيرة سيطرة المحافظين على هيئته الرئاسية.
ويمكن القول إن المرشد يمتلك بدائل عديدة يستطيع من خلالها إعادة ضبط التوازنات السياسية، بشكل يضع سقفا محددا للدور الذي يمكن أن يقوم به المجمع في هذا السياق.
اختيارات المرشد لأعضاء المجمع تكشف عن وجود أزمة حقيقية داخل النظام سوف تتصاعد خلال المرحلة المقبلة
أزمة النظام
تكشف اختيارات المرشد لأعضاء المجمع عن وجود أزمة حقيقية داخل النظام سوف تتصاعد خلال المرحلة المقبلة، وهو ما يعود إلى اعتبارين: الأول؛ استمرار تدوير السلطة داخل النظام بدلا من تداولها، حيث يواجه الأخير دائما خيارات محدودة للتعامل مع أي فراغ يحدث داخل مؤسساته، وهو ما تعكسه التركيبة الجديدة للمجمع الذي يتولى معظم أعضائه مناصب أخرى رئيسية في النظام.
الرئيس الجديد للمجمع هو في الوقت ذاته نائب رئيس مجلس الخبراء، وكان رئيسا للسلطة القضائية قبل ذلك، وتولى أيضا منصب رئيس لجنة الفصل في المنازعات بين السلطات الثلاث، وأحد المرشحين الدائمين لمنصب المرشد رغم أصوله العراقية.
كما أن أحمد جنتي، الذي يتولى رئاسة مؤسستين رئيسيتين في النظام، هما مجلس الخبراء ومجلس صيانة الدستور، عضو في المجمع، والأمر نفسه بالنسبة إلى علي ولايتي وزير الخارجية الأسبق الذي عينه المرشد مستشارا له للشؤون الدولية.
ويكشف الاختيار الثاني شيخوخة النظام، إذ لوحظ أن معظم أركانه الذين تم تعيينهم أعضاء في المجمع طاعنون في السن، بشكل يوحي بوجود فجوة جيلية سوف يعاني منها النظام قريبا رغم أن الشباب يشكلون النسبة الأكبر في المجتمع الإيراني.
ويبلغ رئيس المجمع هاشمي شاهرودي من العمر 69 عاما، وتعرض لأزمة صحية في مايو الماضي لدرجة ظهرت معها شائعات بوفاته، ويبدو أن تلك الأزمة كانت أحد أسباب تأخير صدور قرار إعادة تشكيل المجمع. كما وصل أحمد جنتي رئيس مجلسي الخبراء والصيانة إلى عامه الـ90، ويبلغ المرشد خامنئي 78 عاما.
ربما يكون الجديد في الأمر تعيين إبراهيم رئيسي عضوا في المجمع، وهو أحد الأوجه الجديدة في نخبة رجال الدين التي تتطلع لممارسة دور سياسي في المرحلة القادمة، وكان أحد المرشحين المحتملين لخلافة خامنئي، إلا أن هزيمته في الانتخابات الرئاسية الأخيرة سوف تخصم من فرصه في هذا السياق.
كما أن تعيين باقر قاليباف في المجمع جاء لتعويضه عن فقدان منصبه كرئيس لبلدية طهران لصالح مستشار الرئيس محمد علي نجفي الذي حصل على أغلبية أصوات مجلس طهران البلدي في 10 أغسطس الحالي.
ومع أن التوازنات متغيرة وتعكس في الظاهر ديناميكية واضحة، غير أنها تخفي في الباطن صراعات سياسية محمومة يمكن أن تتصاعد مستقبلا مع اقتراب الاختبار الأصعب الخاص باختيار خليفة لخامنئي.
رئيس تحرير دورية مختارات إيرانية