الأسرة والإعلام المرئي
إذا تحدثنا عن موضوع الإعلام المرئي فلا بد أن نتناوله في مكانين أساسيين؛ المنزل والمقهى. فعلاقة الأسرة بالشاشة الصغيرة لا تزال وطيدة رغم ما شهده العالم من تقلبات في مجال تبادل المعلومة والترفيه والتثقيف، أنتجتها وسائل التواصل الاجتماعي بأنواعها المختلفة وبدقة وسرعة بثها للمعلومة، ولعلّ بث الفيديوهات على المباشر من شتى أصقاع الأرض أصبح لا يثير أي اهتمام إذا أصبح حدث مثل الانتحار يبث على المباشر.
يجتمع أفراد الأسرة ليلا يتسامرون في حميمية فقدت ألقها كما فقدت العلاقات الأسرية الدفء فالكل أصبح يميل إلى الوحدة وفق اختلاف الاهتمامات والمشاغل. فالشاشة الصغيرة آلية التقاء ولو كان ظرفيا، أما نوعية البرامج التي يجتمع حولها أفراد الأسرة فإنها تتوزع بين الأخبار التي تشكل أحداثا غير طبيعية كمتابعة الكوارث الطبيعية ومخلفاتها المادية والبشرية، ومخلفات الأعاصير والفيضانات مثال لذلك، أو الأحداث السياسية ومخلفات الصراعات العنيفة في أماكن ساخنة من الكرة الأرضية كالاغتيالات والتفجيرات وغيرها، أو مواكبة نتائج انتخابات في مكان ما من العالم قد تكون لها انعكاسات مباشرة أو غير مباشرة على الأسر.
أما “برامج الواقع” فهي الأكثر مشاهدة بحكم معالجتها لمواضيع كانت إلى زمن قريب تمثل “تابوهات” لا يمكن الولوج إليها. الشاشة الصغيرة شأنها شأن الصحف الورقية وسائر وسائل الإعلام التقليدية تبحث عن إعادة تموقع في الساحة الإعلامية التي اكتسحتها وسائل الاتصال الاجتماعي إما لسهولة الاستعمال وإما لسرعة الوصول إلى المعلومة.
وللأسباب سالفة الذكر تعددت القنوات التلفزيونية وخرجت في معظمها من تحت عباءة السلطة في قنوات وباقات خاصة تمثل في حدّ ذاتها امبراطوريات على ملك الساسة وأصحاب المال. ولم تجد هذه القنوات من وسيلة لشدّ المشاهد والرفع من نسب المشاهدة لديها إلا “برامج الواقع” المنتشرة عالميا والتي تعتمد التنويع في الفقرات المقدمة وتفصيلها بحسب اهتمامات الشارع الشعبي، فهذه البرامج لامست حياة الناس التي كانت تمتاز بالخصوصية في دوائرها الضيقة، كما لامست المشكلات التي كانت تمثل محظورات شعبية واجتماعية لا سبيل لطرحها، إعلاميا خاصة، وبذلك فمثل هذه البرامج مثيرة لجدل اجتماعي مستمر بين مساند لها على أساس حرية الإعلام في الكشف عن قضايا اجتماعية مهما كان نوعها في إطار نظرة تتأسس على تنوير الرأي العام، وبين معارض يستند إلى رؤية أخلاقية بالأساس. والأمثلة على هذه المواضيع كثيرة، منها التطرق إلى قضايا الاغتصاب والتحرش الجنسي، ومنها الجرائم وارتكاب الفظاعات والتنكيل، ومنها جرائم التحيل والسرقة والسطو، ومنها المشاكل الزوجية والعائلية.. تجتمع الأسر، رغم فداحة ما يعرض أحيانا، لمشاهدة أطوار هذه البرامج التي توشح فقراتها أحيانا بومضات ترفيهية في شكل سكاتشات أو أغان أو عرض فيديوهات طريفة.
في تونس مثلا إلى جانب ما ذكرنا من البرامج فإن المسلسلات التاريخية والتركية خاصة وفرت فرصا لأفراد العائلة ليجتمعوا أمام الشاشة في حرارة عائلية تذكرنا ولو بنسب ضئيلة بالأيام الخوالي التي كان للقاء كل أفراد الأسرة طعم خاص ونكهة تكسّر الرتابة وتبعث نفسا جديدا للنقاش والحوار حيث كان للضحك وجود، وللبسمة عنوان.
أما في المقاهي فإن الإجماع على الفرجة ثابت رغم اختلاف الأعمار والأفكار والميولات، إنها مقابلات كرة القدم إذا تعلق الأمر بديربيات محلية أو مباريات المنتخبات الوطنية أو المحطات العالمية كالألعاب الأولمبية أو بطولة كأس العالم أو مباريات البطولات القارية أو مقابلات الدوريات الأوروبية المشهورة في إسبانيا أو إنكلترا.. في هذه الحالات يجتمع الناس حول الشاشة الصغيرة وتكون مناسبة لزيادة عمل المقاهي والتقارب بين الأصدقاء والأصحاب، فهي فرصة للفرجة والتلاقي.
مناسبات التقاء أفراد الأسر والاجتماع أمام التلفزيون كانا مثار جدل واسع خاصة في صفوف النخب المثقفة، فشق منهم يرى أن البرامج التي تعرض فيها الكثير من التعدي على الأعراف والقيم الاجتماعية وهم لا يستسيغون “نشر الغسيل” على المباشر ويرون أن عرض المشكلات الأسرية على الملأ فيه خدش للخصوصية ويبررون ذلك بعجز العارضين لمشكلاتهم عن حلها بأنفسهم ويعتبرون ذلك مدعاة للسخرية والتندر ولا يعتبرون ذلك من صميم العمل الإعلامي بل يطلقون على هذه البرامج تسمية “برامج التهريج”.
أما المؤيدون لعرض مثل هذه البرامج فيرون أنها عنوان لحرية التعبير وحرية الإعلام والتحرر من الرقابة كما يعتبرون أنها برامج لا تخلو من توعية وفتح البصائر على المصائب والمشكلات الاجتماعية التي يسعى البعض لطمرها مثل مخلفات العنف وقضايا الدعارة والاغتصاب والمخدرات والخيانة الزوجية..
السؤال الذي يطرح بجدية؛ هل يمكن لكل أفراد العائلة أن يجتمعوا أمام التلفزيون ويشاهدوا البرامج دون إحراج؟ تبقى الإجابة قابلة لعدّة تأويلات بأنساق فكرية ودينية واجتماعية مختلفة، فمن الناس من يقبل ومنهم من يرفض، كل بحسب معاييره.
كاتب تونسي